اخبار المغربسلايدشو

الأستاذ محمد الحناش.. عاش مع الهموم ومات مع الأحلام

د. منتصر فايز الحمد – جامعة قطر
أغسطس 2022

قضيت ساعة أو يزيد مع أخي الكبير الأستاذ محمد الحناش –رحمه الله- نتجاذب أطراف الحديث، وقد جمع حين لقيته ضعف الجسد مع قوة المنطق وسقم البدن مع سلامة الحديث… ولكنّه استعاض عن حديثه الحالم بسؤالي عن أحوالي وأعمالي وعن كل جديد من أحاول إخوانه من أهل العلم، وكما هو حاله لا ينفكّ يسدي النصيحة. لم يكن من بدّ أن أتركه، فعلت وأنا أتأمله وأدعو الله دعوة راجٍ أن ألقاه في قابل أيامي، وقد عجّل لي الله أجر تلك الدعوة وأجّل لي برّها؛ فقد انتهى لي خبر وفاته بعد شهر من تلكم الصلة التي لا أرجو أن تنقطع.
يقولون: “العِلم رحم بين أهله”، ومنذ لقيت الحناش في الدوحة قبل سبع سنوات ونحن في صلة لا تنقطع، فقد خصّه الله –تعالى- أن آتاه بسطة في العلم والجسم، سخّرهما محاربًا صلبًا يُعمل فكره ويفني جسده يكافح في سبيل حماية اللغة وصونها، وخوض كل جديد بغية ألا تتوارى في الزحام بين اللغات الحديثة، عروبيّ انبرى يحمل همّ إرث أمّة في لغتها، يجوب في سبيل ذلك البلدان ممتشقًا بيده عدّة العالم ممّا استطاع إليه سبيلاً.
ومن عدّته تلك أنه آمن بالمؤسسيّة، فأسّس في سبيل ذلك منفردًا وفي مجموعات عددًا من المبادرات والمؤسسات والمخابر اللغوية التي عُنيت بمشاريع لغوية رائدة، كما عمل –رحمه الله- على مراكمة الخبرات وحرص ألا تنحصر بين ندماء لا تغادر مجالسهم وكأنها سرّ صحبة، ولما كانت تركة العالم علم ينتفع به، فقد بسط رداءه للشباب يرتقون سلّم المعرفة يدفعهم حانيًا عاليًا، أسس لهم “التواصل اللساني” فباتت منارة لحقول اللغة المستجدة.
ومن جميل خصاله –رحمه الله- أنه علم أن الرفعة بالتواضع، فيساير من كان للجهالة أقرب منه للعلم حتى إن أمسك تلابيبه بمليح قوله ولطيف منطقه جذبه لمدارات الاجتهاد في فضاء العلم.
وقد سعدت بصحبته زمنا ليس باليسير، بين حلّ وترحال، ومن قصصه في السفر قبل ثلاثة أعوام أنه كان بالكاد يمشي متكئًا، نشفق عليه إن قام أو جلس ولكنه يفاجئنا بإصراره الشديد على مسايرتنا في كل منشط وملاقاة كل أخ وصديق… ونحن في كل ذلك مشفقون عليه، نخشى أن تقعده عِلّة، ولكن شاء الله أنه وعلى غير المتوقع ألمّت وعكة بأخ حبيب كان يرافقه فقضى ليلته في المستشفى يعتني به ويسامره، ثم يلتفت إليّ حانيًا يدفعني للنوم شفقة علي، ويلفّ كل ذلك بممازحات خفيفة يلطّف بها أجواء الترقّب بانتظار نتائج الفحوص.
كما شرفت به في جلّ محاضراتي على الإنترنت في زمن كورونا، أسرّ برؤية شاشته بين الشاشات المتراكبة، نأخذ بعد كلٍّ منها فسحة بيننا يحاورني ويناقشني فيما سمع ورأي ثم يسدي لي النصح والمشورة… وفي محاضرة لي راعه أن رآني بلحية كورونية كثّة وشعر منكوش أحاضر في مركز الحضارة في قازان فلم يرق له ذلك فعاجلني باتصال يوصيني فيه أن أخفّف لحيتي آخذ منها فتمازحنا قليلا ثم أخذت منها.
وعلى الرغم من معرفته بعديد اللغات وترحاله في البلاد، لم يزعزع اهتمامه وعنايته بالعربية التي نبعت من صميم اعتزازه بها لسانًا وقومًا والإسلام فكرًا جامعًا… وهو في كل ذلك شديد الارتباط بالمغرب إقليمًا وجِهةً يعرّفني بعلمائه وتصنيفاتهم وسبقهم في أبواب مختلفة من العلوم، يحبّبني في كلّ ما فيه، حتى أن من مغربيّته –رحمه الله- أنّه لمّا أجريت مباريات “كأس العرب” لكرة القدم في قطر كاتبني على الواتساب يمازحني: “شجِّع المغرب ولا تتردّد. أنت مغربيّ قلبًا وقالبًا، ولك من الأصدقاء هنا كثير. وهو بالفعل ما شعرت به ما أن حللت بالمغرب حتى شملتني محبة الإخوة وغمرني كرمهم.
تترك بين أيدينا علمًا هو بعضٌ منك يعيش بيننا، علّنا ننتفع به فيصدق فيك وعد نبيّنا –عليه السلام، فيرتقي بك إلى رتبة العلم التي هي أعلى الرتب. رايتك التي حملت يومًا لا تسقط وأحلامك ستتحقق يوما، والعاقبة للمتقين.
ابوأنس من القنيطرة

المقالات المشابهة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى