بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
توغل إسرائيل في الجريمة، وتفرط في الظلم والعدوان، وتبالغ في استخدام القوة والسلطة، وتمارس المزيد من جرائم القتل والاعتقال، واغتصاب الحقوق ومصادرة الأراضي، والاعتداء على حياة الفلسطينيين وتدمير بيوتهم وتخريب زروعهم وحرق محاصيلهم، ويواصل جيشها حرب الغارات الجوية والاقتحامات الميدانية، والقصف بالصواريخ ومدفعية الدبابات البعيدة، ويمعن مستوطنوهم في عملياتهم العنصرية واعتداءاتهم اليومية على الفلسطينيين في الشوارع وعلى الطرقات، وفي البيوت والسيارات، ويواصل المتدينون المتعصبون اليمينيون المتشددون عمليات اقتحام المسجد الأقصى وتدنيسه، والسيطرة على الحرم الإبراهيمي وتهويده.
رغم جرائمِها البَيِّنة وعدوانِها الموصوف، وآثارها الكثيرة وشواهدها العديدة، والصور الفاضحة والبيانات الموثقة، وتحقيقات الهيئات المستقلة ومنظمات حقوق الإنسان المختلفة، إلا أنها ترفض أن يدينها أو أن يستنكر أفعالها المشينة أحدٌ، وترفض أن يتهمها المجتمع الدولي بالجريمة والعدوان، أو أن يطالب بمحاسبتها ومعاقبتها، فهي تتعالى على المؤسسات الدولية والمنظمات الأممية وتهينها، وتستخف بها وتعترض على عملها، وترفض الخضوع لها للمسائلة أو المحاكمة أمامها، وتصر على أنها بريئة من الاتهام، وخالية من الجريمة، وكأنها بما ترتكبُ من فواحش وكبائر فوق القانون لا يسألها أحد، بحجة أنها مظلومة وتتعرض للعدوان، وأن ما تقوم به ليس إلا صداً للعدوان ورداً عليه، وهو ما لا يجرمها به قانونٌ، أو يمنعها عنه عُرفٌ أو نظامٌ.
تستغرب إسرائيل الحملة الدولية التي أطلقتها ضدها محكمة الجنايات الدولية، وتتهم إدارتها بالتحيز وعدم الإنصاف، وبالتعدي وعدم الاختصاص، وترفض التعامل معها على هذا الأساس، وكلف رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو المستشار القضائي لحكومته، ومختلف الهيئات القضائية والقانونية الإسرائيلية، وكبار الكتاب والصحافيين والمؤسسات الإعلامية، التصدي لمحاولات محكمة الجنايات الدولية تعريض حياة جنود جيشها وضباطه لخطر الملاحقة والاعتقال والمحاكمة، وغيرهم من المسؤولين السياسيين والأمنيين والعسكريين الذين قد تدرج المحكمة أسماءهم وتطالب باعتقالهم، الأمر الذي من شأنه أن يعيق حركتهم ويقيد سفرهم ويعطل عملهم، ويشوش على مهماتهم الخارجية التي تتطلب منهم السفر والانتقال.
وقد ترأس نتنياهو بنفسه العديد من الاجتماعات واللقاءات التخصصية مع كبار المسؤولين في القضاء الذي يعاني من أزمة عدم وجود وزيرٍ مختصٍ، مما دعاه إلى ترأس اللجان المختصة، وإدارة هذا الملف بنفسه، والتصدي له بكل قوةٍ وحزمٍ، مستخدماً كافة صلاحياته وكل علاقاته الدولية للتحريض على محكمة الجنايات الدولية وتشويه إدارتها، والطعن في نزاهتها واتهام رئاستها، والتشكيك في اختصاصها وإدانة سياساتها، ورغم أنه يتعرض لانتقاداتٍ شديدةٍ من خصومه لشغور منصب وزير القضاء، إلا أنه يصر على القيام بمهامه بنفسه، ليتسنى له الإحاطة بهذا الملف، والتصدي لهذا التحدي الخطير الذي يبدو أنه سيكبر وسيقوى.
يحاول بنيامين نتنياهو في معركته ضد محكمة الجنايات الدولية، الاستقواء بالإدارة الأمريكية الجديدة وتوظيفها معه، ودفعها للعمل إلى جانبه في هذه المعركة القانونية، التي تستهدف سمعة كيانه وجيشه أكثر مما تستهدف حياة وحرية ضباطه ومسؤوليه ومستوطنيه، وهو يعلم ثقل الولايات المتحدة الأمريكية ومحورية دورها ومركزية قرارها في المحكمة، وأنها تستطيع تعطيلها ووقف إجراءاتها، ولهذا فقد كثف مساعيه وأرسل مبعوثيه، وعرض على ضيوفه الأمريكيين خطورة ما يواجه كيانه، وأنه في حاجةٍ إلى مساعدتهم لكف يد المحكمة ومنعها من فتح الملفات المتعلقة بجيش كيانه وحكومته.
لن يتورع نتنياهو عن القيام بأي عملٍ من شأنه إبعاد شبح المحكمة عن كيانه، ولهذا فهو يسعى للحصول على تأييد بعض الدول العربية لموقفه، وتوظيفها لخدمته، والاستفادة من موقفها الرافض لمحاكمة كيانة واعتقال ضباطه، وقد يطلب من بعضها رفع الصوت عالياً على المستوى الدولي، للمطالبة بوقف الإجراءات المتخذة ضد كيانه، واعتبارها غير عادلة، أو بالضغط على السلطة الفلسطينية بكل الأوراق المتاحة لديها، وتهديدها بوقف الدعم لها، لإجبارها على سحب الدعاوى المرفوعة ضد الكيان في محكمة الجنايات.
ومن قبل قام وزير خارجية العدو غابي أشكنازي ورئيس الشاباك نداف أرغمان بتحذير السلطة الفلسطينية من مغبة الاستمرار في مساعي محاكمة قادة كيانهم لدى المحكمة، واعتبروا أن إصرار السلطة على موقفها سيكبدها خسائر كثيرة، وسيكون لقرارها تداعيات كبيرة على علاقتها بالاحتلال، وقد تقود هذه المحاولة إلى وقف تحويل عوائد الضرائب الفلسطينية للسلطة، وإغلاق المناطق، وسحب بطاقات التسهيل للشخصيات، وتقييد حرية الحركة والسفر وغير ذلك من الإجراءات العقابية التي قد تقدم عليها سلطات الاحتلال.
عجيبٌ أمر هذا الكيان الغاصب، يريد أن يرتكب كل المحرمات ولا يريد من أحدٍ أن يدينه، بينما يريد أن يحاكم الآخرين على الجرائم التي ارتكب مثلها وأفضع، وقام بمثلها وأسوأ، ويطلب من المجتمع الدولي إدانة الفلسطينيين ومعاقبتهم، وعدم الإصغاء إلى روايتهم أو تصديق حكايتهم، بدعوى أنهم يعتدون عليهم ويحتجزون جنودهم، ويقتلون مواطنيهم، ويعرضون حياة شعبهم للخطر، وبذا فهم يستحقون الإدانة والمحاكمة، بينما هم الذين يرتكبون كل الموبقات والجرائم، ويحتلون الأرض ويغتصبون الحقوق، ويقتلون البشر ويدمرون الحجر، ويحرقون ويخلعون الشجر، فهم براءٌ من سوء النية، أطهارٌ من تعمد الإساءة وقصد الضرر.
فهل نتركهم يسوقون حجتهم ويفرضون رأيهم، وينجون بأنفسهم من المحاسبة والعقاب، ونضعف أمام قرارهم إنكار الجريمة وعدم الاعتراف بالمحكمة، أم نصر على ملاحقتهم والتضييق عليهم، ومشاغلتهم ومقاومتهم بكل السبل الممكنة، بما فيها القانون الدولي ومحكمة الجنايات الدولية، فلعل فيها الخير والنفع وإن ظن الكثيرون من شعبنا وأمتنا، أنه لا خير يرتجى من المؤسسات الدولية ومنظمات الأمم المتحدة، التي لا تملك قوة الفرض ولا سلطان العقاب، فلا نحقرن من الجهد في النضال شيئاً، ولا نستخف بأي سلاحٍ في مواجهة العدو ولو كانت شوكةً، فنحن مدعوون لمقاومته بكل سلاحٍ متوفرٍ، ومواجهته بكل وسيلةٍ ممكنةٍ.
بيروت في 10/4/2021