“الآن يا سيدات و يا سادة، و بعد انكسار الموجة و انسجامها مع سطحية بحر العادة، أعود بكم إلى قضية الطفل عدنان بالذات نظرا لكونه آخر من نتذكرهم من ضحايا الثالوث استدراج-اغتصاب-قتل. الآن و نحن ننتظر فصول مسرحيات مماثلة، أبطالها أرواح بريئة مسالمة، ركحها ازقة و غياهيب قاتمة و جماهيرها اعين نائمة. الآن و دوما وجب التطرق لهذه الظواهر بشكل تفصيلي حتى نفهم و نفك ارتباطا بين الإدراك و بين النسيان و نكسر اواصر صحبتهما الدائمة.
أعود بكم مرة اخرى كون هذه القضية ظاهرة اجتماعية مركبة و معقدة تحدث غير ما مرة في مجتمعنا، لتجسد مشهدا تعدى وحشية الغابة. أعود بكم حتى نفهم معا ما تعذر على الاغلبية فهمه و رؤيته بين ضباب الغضب و العاطفة! حتى نعرف من هم هؤلاء الشياطين الذين يغتصبون ثم يقتلون الأطفال؟ من هم هؤلاء الذي يلعبون نفس الدور بنفس التفاصيل رغم علمهم المسبق بالعواقب؟
و للإجابة على الأسئلة السابقة، سيكون هذا المقال مقسما لأربعة محاور. في المحور الأول سأتطرق لسيكولوجية الاطفال من الفئة المستهدفة و لماذا يسهل غالبا استدراجهم. اما المحور الثاني فسأخصصه للشخصية البيدوفيلية و خصوصياتها. في المحور الثالث سأتطرق لأسباب جريمة القتل التي غالبا ما تسدل الستار الملطخ بدم البراءة على هذه الظاهرة. و أخيرا و من بُعد الوقاية سأطرح مجموعة من التوصيات مستهدفا الأسرة من جهة و كذلك المجتمع المدني.
تعتبر المرحلة العمرية بين 6 و 12 سنة، رحلة طفولية متميزة عن سابقتها المتسمة بالأنانية و بالإحساس بمركزية الذات و النفس. فخلال مرحلة بداية الست سنوات يبدأ الطفل بعد تقبله لذاته في الانفتاح اكثر على محيطه من خلال التعرض و الإستجابة لآليات التنشئة الإجتماعية في بيئته، حيث يحاول هذا الأخير إيجاد و تكوين شخصيته الخاصة انطلاقا من مقارنة نفسه مع الآخرين و كذلك من خلال التشبع و الامتثال للقيم و للثقافة السائدة في محيطه.
و قياسا بالبالغين فالطفل في هذه المرحلة العمرية يبني شخصيته أيضا على اساس الأبعاد الخمسة Big five المعروفة في مجال علم النفس و هي:
– الانفتاح على التجارب: حيث يتعلم الطفل التوفيق بين الفضول و بين الحذر من خلال استنتاجاته الخاصة المستنبطة من نتائج الوضعيات المتكررة في وسطه.
– الضمير: أو بمعنى آخر مدى القدرة على الانضباط و استحضار الوازع الأخلاقي او فقط الاكتفاء باللامبالاة!
– الانبساط النفسي: او نصيب الطفل من تقبل الذات و الانفتاح على الغير او فقط الانعزال و التحفظ.
– الوفاق: مدى قدرته على التوفيق و التعامل مع المختلف.
– و أخيرا الجانب (العصابي) المتعلق بالعاطفة و مدى حساسية الطفل أثناء الوضعيات الجديدة التي يصادفها في محيطه.
إذا اسقطنا جل ما سبق على وضعية استدراج الطفل، فسنخلص لا محالة إلى فهم الطبيعة المركبة لتفكير الطفل المستدرج في لحظة تواصله مع الغريب المستدرِج. سنفهم موقفه من الغرباء و مدى انفتاحه عليهم، طبيعة التزامه بالوازع الأخلاقي بحكم ان المستَدرِج غالبا ما يطلب مساعدة او خدمة تكون في متناول الطفل، و كذلك مدى الإحساس بالفخر كونه يسدي خدمة لمحتاج انطلاقا من القيم المكتسبة أثناء التربية او التنشئة الاجتماعية. كما يعتبر عامل الفقر و الحاجة بعدا مؤثرا على قرار الطفل في الانسياق وراء المستدرج. كل هذه العوامل ربما تفسر ظاهرة سهولة استدراج بعض الاطفال، و كذلك للمعايير التقليد المعتمدة من طرف المستدرِجين.
أما بخصوص الشخصية البيدوفيلية فالأمر اعقد مما تتصوره العامة. فالشخصية البيدوفيلية يصعب جدا تحديدها بسبب عدم توفر علامات مورفولوجية، اجتماعية، نفسية خاصة تسهل عملية التشخيص الأولي لهذه الفئة. فالشخصية البيدوفيلية غالبا ما تكون كتومة للغاية بخصوص موضوع الميول الجنسي للأطفال. و بالتالي فهذه الميولات يمكن أن تكون لدى أي شخص سواء من المقربين او من الغرباء. كما ان الجدل ما زال قائما بخصوص طبيعة هذه الشخصية و أسباب هذه الميولات الشاذة اتجاه الأطفال، خصوصا و ان هناك تيارات تنادي بكون هذا الميول طبيعيا، و اخرى ترى في البيدوفيليا اضطرابا نفسيا له مسببات متعددة على رأسها تجربة التعرض للإغتصاب في مرحلة الطفولة و السلوك المكتسب حينها، أو مشاكل في تطور الميول الجنسي اتجاه البالغين (الخوف من الأنثى مثلا)، بالإضافة إلى مجموعة من أسباب و إمكانيات الأخرى.
أخيرا و بعد نجاح عملية الاستدراج ثم حصول عملية الاغتصاب كما حدث في قضية الطفل عدنان، يستفيق المعني بالأمر من عمى اللذة ليجد نفسه أمام محكمة المجتمع، امام إمكانية تصفيته حتى قبل انتشار خبر فعلته، امام تأنيب الضمير، و أمام شاهد وحيد على سوء فعلته. لتبقى ورقة تصفية الطفل و إخفائه للأسف آخر خيار للمستدرج-المغتصب-القاتل، و هكذا تكرر المأساة نفسها في كل مرة عاصفةً بقلوب الوالدين، العائلة و المجتمع برمته.
الظاهرة في جوهرها اعمق بكثير من كونها جريمة قتل و اغتصاب متكررة، ثم شرارة غضب شعبي سريعة الانطفاء. فبالنسبة لي هناك عوامل و أسباب عدة تساهم في النجاح المستمر لتكرارها و بنفس الطريقة. اما المسؤولية فهي لا محالة مشتركة بطبعها من قبل أطراف عديدة سواء بطريقة مباشرة او غير مباشرة.
أولا على مستوى العلاقة الاسرية بين الاطفال و الوالدين فلا بد من خلق مجال للثقة و الحوار يحس خلاله الطفل انه يستطيع قول كل ما يحدث معه دون الخوف من ردود أفعال عنيفة. كما يجب على الاسرة دون حرج ان توجه تعاملات الاطفال مع الاقرباء و الغرباء بخصوص إمكانية التعرض للمس المتكرر و القبل المشكوك فيها سواء من قريب أو من غريب. الحث على ضرورة استشارة أحد الوالدين بخصوص مرافقة غريب او حتى مساعدته. كما تجدر الإشارة هنا لغياب التربية الجنسية في ثقافتنا و التي تكسب الطفل معارف يمكنها مساعدته على تمييز التحرش المحتمل به.
أما على مستوى الأحياء، و نظرا للتحولات الاجتماعية الراهنة المتمثلة في النمو الديموغرافي المتزايد، في تردي الاوضاع الاقتصادية و الاجتماعية، و في اضمحلال الرفاهية، الأمن و قيم التكافل الاجتماعي، فالباب صار مفتوحا على مصراعيه لمجموعة من الطفرات الاجتماعية الشاذة عن حياتنا اليومية في الاحياء كاغتصاب و قتل الاطفال الأبرياء. لذا فجانب مهم من المسؤولية يقع على عاتق الممثلين السياسيين لساكنة الحي كون جوهر مهامهم يتجلى في تشخيص و تحديد هذه المشاكل و البحث عن السبل او الاستراتيجيات الممكنة لحلها، على الفاعلين الحزبيين بخصوص ترجمة هذه المشاكل إلى مطالب قصد الضغط من اجل سن قوانين او من اجل أخذ تدابير سواء على المستوى المحلي او حتى على المستوى الوطني، و على الجمعيات النشيطة في الأحياء التي من المفروض بها ان تلعب دورا مهما في تاطير و تخليق الحياة اليومية بين سكان الاحياء بعيدا عن امتطاء صهوة العمل الجمعوي لأمر في نفس يعقوب.
أخيرا تجدر الإشارة إلى أن قصة الطفل عدنان، الطفلة نعيمة و كل الأطفال الذين راحوا ضحية مجموعة من ظواهر العنف، الجشع و الشذوذ هي سيرة للأسف حتمية في مجتمع عليل منسلخ عن قيمه، و أن التقليل من فرص تكرارها يستوجب خطوات اكبر من تعليق وسام الإعدام المستحق على صدور المقترفين لهذا الجرم الشنيع. فمع استمرار مرض المجتمع و انحطاطه سيظل هذا الاخير مسرحا و ركحا فسيحا لفصول اغتصاب الأطفال, و اغتصاب عقول و حقوق البالغين.”
عبد الحنين برهي