بعد ستين عاما من النضال والكفاح، عقدت النقابة الوطنية للصحافة المغربية مؤتمرها التاسع بالمركب الدولي ببوزنيقة، في الفترة من 15 دجنبر 2023 إلى 17 دجنبر من السنة نفسها، تحت شعار” تحصين المهنة وحماية المهنيين“، في أجواء مطبوعة باستمرار الإلتزام النضالي المسؤول، المعبر عن الوفاء لمسيرة تاريخية في الدفاع عن المهنة والديمقراطية وحرية الرأي والتعبير ببلدنا، وبالوعي بالإكراهات التي يفرضها تغير السياقات المرتبطة بالتحولات السياسية والاجتماعية والمهنية والتكنولوجية.
في محطة المؤتمر الوطني التاسع تشعبت أسئلة المهنة وتعددت انشغالات المهنيين، التي لم تقف عند السياق الوطني، بل استحضرت كذلك السياقات الدولية التي أصبحت أكثر تأثيرا على محيطنا الوطني، وقد عبر شعار المؤتمر “تحصين المهنة وحماية الصحفيين” عن الرغبة في مقاربة تحديات هذه السياقات المتداخلة بكل مسؤولية وقدر عال من الجرأة.
كما ينعقد المؤتمر التاسع للنقابة الوطنية للصحافة المغربية في ظرف استثنائي خاص، بحيث يواجه الإعلام الوطني والمقاولات المهنية تحديات تهدد استمرارية عددا من القطاعات المرتبطة بالحقل الصحافي، مما يطرح، أيضا، مخاوف استهداف العنصر البشري في وظائفه ومستقبله المهني.
وتعتبر التأثيرات المتعلقة بتقدم الأبحاث في مجال الذكاء الاصطناعي على رأس التحديات المطروحة على مهن الإعلام والصحافة في المستقبل القريب، مما يفرض الانكباب الآني على تقديم أجوبة استباقية لهذا التهديد المحتمل، وتحويل المخاوف منه إلى فعل يوظف الإيجابي، ويواجه ما هو سلبي فيه، مما يجعله فرصة لتطوير المهنة، لا عائقا أمام استمرارها.
وقد أثبتت الكثير من التطورات التي عرفتها السنوات الأخيرة زيف الشعارات التي ترفعها القوى الدولية الكبرى، بخصوص دعم الديمقراطية، وحماية حقوق الإنسان، ومازالت جرائم العدوان الإسرائيلي المتواصلة أكثر فضحا لازدواجية المعايير، التي أصبحت سمة ملازمة للسياسات الخارجية لهذه القوى، وبالتالي فإن الرهان عليها من أجل التطور الديموقراطي، والتنمية المستديمة، وبناء دولة القانون والحريات، هو رهان خاسر، بل قد يسمح بأشكال مرفوضة من التدخل في الشأن العام الداخلي، واستهداف مفردات وعناوين السيادة الوطنية، ولذلك فإن الرهان الأكبر يجب أن يكون وطنيا خالصا، منبثقا من قيمنا وسياقنا وأنساقنا الثقافية، وكذلك من إيماننا بقيم حقوق الإنسان كما هي متوافق عليها كونيا، والتي تتعرض لانتهاك وخيانة لقيمها من طرف هذه القوى الدولية نفسها، التي تدعي نشرها وحمايتها.
إن من أولويات النقابة الوطنية للصحافة المغربية الدفاع عن الحقوق والحريات بروح وطنية، ومرجعية حقوقية، وأفق ديموقراطي، للمساهمة في استكمال حلقات التحول الديمقراطي المنشود، غير أن توسع هوامش حرية الرأي والتعبير والنشر، يجب حتما أن تلازمه المسؤولية الأخلاقية والمهنية والسياسية والقيمية، حتى لا تتحول هذه الحرية إلى شكل من أشكال التمييع، والاعتداء على المجالات الخاصة للأفراد، وزحف ثقافة “الفضائح” والإثارة المجانية، والإشاعات، والأخبار الزائفة، مما يعطي ذرائع لإعادة تقييد الحريات بمبرر محاصرة العواقب السلبية لممارسات صحافية بعيدة عن ميثاق أخلاقيات المهنة، وقد يلاقي هذا التقييد قبولا مجتمعيا، باعتبار تضرر كثير من المواطنات والمواطنين من هذه الممارسات التي لا علاقة لها بنبل المهنة.
وتعتبر النقابة الوطنية للصحافة المغربية أن حاجة الحقل الإعلامي إلى وجود مستثمرين، يجب أن يصب في صالح تطوير المشهد الإعلامي الوطني، ليكون أكثر مهنية وتنافسية، لا أن تصبح حرية الصحافة مهددة بقوة المال، مما يحجمها، ويفرض مزيدا من القيود على الصحافيين/ات المهنيين/ات، وتتحول معه العناوين الإعلامية إلى حلبة لتصفية الحسابات على حساب أدوار الصحافة الأساسية في الإخبار، والتثقيف، والتعليق الحر المسؤول.
وقد توسعت هذه الأزمة لتعم كل المراحل وسلاسل الصناعة الإعلامية إنتاجا ونشرا وتسويقا، ومست الصحافة بفروعها السمعية البصرية، والمكتوبة بدرجة أعلى، سواء منها الإلكترونية أو الورقية على حد سواء، الشيء الذي عمق الاختلالات، وساهم في ظهور آثار سلبية ، أصبحت معها العديد من المنابر والجرائد مهددة بشبح الانهيار والإفلاس، وأصبح الصحافيون والصحافيات مهددين، هم الآخرون، في معيشهم اليومي إلى درجة أن العديد من المؤسسات الإعلامية لجأت إلى حلول ظرفية قاسية، تحمل تكلفتها الباهظة عموم العاملات والعاملين في مختلف المهن الإعلامية.
وشكلت تداعيات جائحة كورونا الامتحان الذي انكشف فيه واقع هذا الحقل، وبالرغم من إيجابية التدخل الحكومي لإنقاذ القطاع، إلا أن الأزمة لا تزال قائمة، وتحتاج إلى شجاعة نوعية لعلاجها بشكل فعال ودائم.
لقد أظهرت النتائج الانتخابية، وكذا العمل الميداني اليومي، والتواجد المستمر مع الصحافيات والصحافيين كلما تعرضوا لأي انتهاك لحقوقهم، أن النقابة الوطنية للصحافة المغربية استمرت في تمثيل الدور الطليعي من أجل حماية المهنة والمهنيين، خصوصا وأننا عشنا في السنوات الأخيرة أزمة غير مسبوقة، كانت النقابة الوطنية للصحافة المغربية فيها عند الموعد وفي مستوى تطلعات قواعدها، وعموم الجسم الصحافي.
ولأن مؤتمرنا صادف فتح ورش الإصلاحات التي تهم منظومة القوانين المؤطرة للمهنة، والتي ستتواصل خلال ما تبقى من هذه السنة والسنة القادمة، فقد تم الاشتغال داخل لجنة التشخيص للمؤتمر الوطني التاسع، على تفكيك الوضعية داخل كل القطاعات، سواء على مستوى الكفاية المهنية أو الأوضاع المادية للعاملات والعاملين في القطاع، أو عبر مساءلة التحديات التي تطرحها الفورة التكنولوجية، مرورا بتشخيص دقيق لوضع الحريات ومجموعة من الأسئلة التنظيمية والمهنية، وانتهاء بمساءلة المنظومة القانونية المؤطرة للقطاع.
ولأن هذا التشخيص أبان على كثرة التحديات المطروحة التي تنتظرنا، والتي ستكون حاسمة في مستقبل الصحافة والصحافيين، وتتطلب من النقابة الوطنية للصحافة تعبئة استثنائية لربح هذه المعارك.
فإن خطة النقابة الاستراتيجية للأربع سنوات القادمة، والتي تسمح بتعبئة هياكل النقابة مركزيا وجهويا وقطاعيا، تقتضي الالتزام بتنفيذ محاور هذه الخطة، وفي المقدمة منها:
- إشراك أكبر عدد ممكن من الصحافيات والصحافيين في التداول حول أسئلة تطوير الصحافة والإعلام، وتعزيز أدوار المهنيين العاملين بهذا المجال، باعتبارهم الفاعلين المباشرين في تشييد أي ممكن وطني إعلامي، يزاوج بين الانتصار للقضايا الوطنية الكبرى، وللترافع في الآن نفسه من أجل حق المواطنات والمواطنين في المعلومة، وفي الخبر، سواء على المستوى الوطني، أو في المستويات الجهوية والمحلية.
- الاستمرار في الاضطلاع بالأدوار التاريخية والمؤسسة للنقابة، والمتمثلة في الدفاع عن حقوق المهنيين/ات، وتحصين المكتسبات ومراكمتها وتطويرها، بما يعيد المكانة الاعتبارية للصحافيين/ات. ويعزز وضعهم المادي والمعنوي والرمزي.
- تمكين القطاع الخاص في الصحافة المكتوبة، ورقية والكترونية، وإذاعات خاصة وتلفاز الويب من اتفاقيات اجتماعية تضمن تحصين وترصيد مكتسبات الاتفاق الاجتماعي، وتجويد مضمون الاتفاقيات الاجتماعية، ومواصلة الترافع للرفع من الخدمات الاجتماعية، لمواجهة كل مظاهر النقص في الحماية الاجتماعية.
- الإنخراط في معركة إصلاح المشهد الإعلامي، بما يلزم من جرأة ووضوح ، بدءا بمنظومة القوانين ، ومرورا بالمطالب القطاعية، بناء على خلاصات التشخيص القطاعي المنجزة، خلال هذا المؤتمر.
- مواصلة قيادة معارك الإعلام العمومي من موقع المسؤولية الميدانية، والقوة الاقتراحية التي تتجاوز منطقة الضبابية والتكتم التي يخلفها مشروع الشركة القابضة، والدفع بالنقاش فيه إلى دائرة الضوء، والاستعداد لمسارات تنزيل هذا المشروع المؤثر في حياة الصحفيات والصحفيين والعاملات والعاملين في القطب العمومي.
على المستوى الإقليمي والدولي:
كما وقف المؤتمر التاسع للنقابة الوطنية للصحافة المغربية على تداعيات العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في القدس والضفة الغربية، وبالخصوص في قطاع غزة الذي يتعرض لإبادة ومخطط تهجير ممنهجين، وهو عدوان غير مسبوق في السنوات الأخيرة، استهدف الحق في الحياة لحوالي 20 ألف مواطن مدني، أغلبهم من النساء والأطفال، ودمر العديد من البنيات التحتية الضرورية لاستمرار حياة عادية، من قبيل المستشفيات والمدارس ودور العبادة ومحطات تعبئة المياه، ومنع وصول المساعدات الطبية والغذائية والطاقية، مما يشكل جريمة حرب مكتملة الأركان، وانتهاكا غير مسبوق للقانون الدولي الإنساني.
وقد استحضر المؤتمر عمليات اغتيال رقم غير مسبوق من الصحافيات والصحافيين خلال نزاع مسلح، بحيث يكاد يصل ل 100 صحافية وصحافي، (87 حالة مؤكدة حتى صياغة البيان)، وآخرهم الزميل سامر أبو دقة الذي وصلنا نبأ استشهاده أثناء انعقاد مؤتمرنا.
ويطالب المؤتمر التاسع للنقابة الوطنية للصحافة المغربية بتفعيل الآليات الأممية لحماية الصحافيين أثناء الحروب والنزاعات المسلحة، ويعبر عن تضامنه اللامشروط مع كل الصحافيات والصحافيين العاملين في قطاع غزة، ويقدم خالص التعازي لعائلات الشهداء منهم.
وينبه المؤتمر لخطورة الاستقطاب الإعلامي السائد عالميا على حرية الرأي والتعبير، بسبب تنامي التوترات على المستوى الدولي، ما يؤدي إلى إنتاج بيئة خصبة لانتشار الأخبار الزائفة، التي تقوض أسس التعايش والنقاش العمومي المبني على الاحترام، وتذكي التوترات والنعرات، وتهدد حق المواطنين في كل بلدان العالم في الحصول على المعلومة، وللأسف فإن عمالقة الأنترنت، لا يبذلون المجهود المطلوب في محاربة الأخبار الكاذبة، ومحاصرة خطابات العنصرية والكراهية والتمييز، رغم كل ادعاءاتهم بخصوص الخوارزميات التي تمنع مثل هذه المحتويات، بل يمكن القول إن معظم المنصات الإلكترونية الكبرى للتواصل الاجتماعي أو البث الرقمي للفيديوهات أو التواصل الفوري أصبحت مجالا خصبا لنشر الإسلاموفوبيا، ورهاب المهاجرين، والتمييز العنصري، والتطرف القومي والديني، كما لعبت أدوارا سيئة لصالح محاصرة محتويات لا تخدم السرديات الغربية بخصوص أحداث تستأثر باهتمام الرأي العام العالمي، مثلما يقع في الأراضي الفلسطينية المحتلة حاليا.
وتسجل النقابة الوطنية للصحافة المغربية بأسف شديد تراجع حرية الإعلام بعدد من الدول المغاربية، سواء لعدم وجود بيئة آمنة لممارسة العمل الصحافي، أو لاستمرار بعض الأنظمة السياسية السلطوية في التضييق على عمل الصحافيين عبر محاكمتهم بالقوانين الجنائية بدل قوانين الصحافة، في قضايا تتعلق بممارستهم لحقهم في التعبير وممارستهم للمهنة، ما يفرض تنسيق المجهودات بين التنظيمات الإعلامية والجمعيات المدافعة عن حقوق الإنسان في المنطقة المغاربية، من أجل الحد من التراجعات في مجال حرية الرأي والتعبير ببعض الدول، ومطالبة الحكومات بالكف عن متابعة الصحافيين في قضايا النشر بموجب قوانين جنائية.
وتنبه النقابة الوطنية للصحافة المغربية إلى خطورة استمرار الحصار الإعلامي المضروب على الأوضاع الحقوقية المتدهورة في مخيمات المحتجزين بتندوف، وعدم فتحها سواء أمام الآليات الدولية لحماية اللاجئين، أو في وجه وسائل الإعلام المهنية غير الموالية لأطروحات ميليشيات الانفصاليين.
وعلى المستوى الوطني:
يطالب المؤتمر التاسع للنقابة الوطنية للصحافة المغربية:
- 1- التدخل العاجل من أجل إنقاذ سوق الإعلانات المغربية من استحواذ عمالقة الإنترنت، واتخاذ إجراءات صارمة من طرف الحكومة للحد من لجوء المؤسسات العمومية الوطنية إلى تحويل إعلاناتها التجارية لفائدتهم.
- 2- تأهيل القطاع الإعلامي ليقوم بدوره التنويري كاملا في المجتمع، والدفع به نحو تقديـم خدمة عمومية تستجيب بشكل أكبر لحاجيات الممارسة الديمقراطية، وتعزز قيم التعددية، وتحد من مختلف أشكال التسيب وخرق أخلاقيات المهنة، والعمل على محاربة انتشار “الأخبار الزائفة.”
- وضع مخططات جهوية تهدف إلى الاهتمام بالصحافة الجهوية والمحلية، وتضع حدا للمتاجرين به ، عبر فتح نقاش صريح حول ضرورة هذا الإعلام، والكلفة التي يستحقها كخدمة عمومية تتحمل فيه الجهات الرسمية واجب دعمه، وفق قواعد تشجع المهني منه، وتضع حدا لمظاهر التوظيف المعيب الذي يكرس الرداءة ويساهم في الإساءة لصورة الإعلام عموما ببلادنا.
- حماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للصحافيات والصحافيين، وعموم العاملين/ات في القطاع، وشرط أي دعم عمومي لأي مقاولة باحترام الاتفاقيات الجماعية الاجتماعية.
- التعجيل بوضع وتعميم اتفاقيات اجتماعية وجماعية جديدة وفق الاشتراطات الحالية، بما يضمن تأمين وضع مادي واعتباري للصحافيات والصحافيين.
- مواصلة إصلاح المدونات القانونية التي لها علاقة بالمهنة، بما يوسع مجالات حرية الرأي والتعبير، وبما يحمي حق الصحافيات والصحافيين في حماية مصادرهم، ويجعل مبدأ حسن النية هو المقدم في قضايا الصحافة والنشر، ويحصر كل هذه القضايا بالاحتكام إلى قانون الصحافة والنشر مع تطويره، وإحداث محاكم خاصة بالصحافة، والقطع نهائيا مع إحالة ما يرتبط بقضايا النشر والصحافة على القانون الجنائي، مع العمل على تحقيق انفراج عام، متوازن، يسمح بنفس إضافي لتقوية الجبهة الداخلية .
- حماية الصحافيات والصحافيين أثناء ممارستهم لعملهم أو بسببه، مع تشديد العقوبات التي تستهدف الاعتداء عليهم، أو تهديدهم، أو ابتزازهم، أو التشهير بهم.
- إعمال مقاربة النوع الاجتماعي سواء في القوانين المؤطرة للمهنة، أو في تدبير المقاولات الصحافية، ومحاربة كل مظاهر التحرش أو التمييز ضد النساء.
- تطوير الإعلام العمومي ليكون أقدر على منافسة الإعلام الدولي، وليقوم بدورها في الدفاع عن المصالح العليا للوطن، وليستجيب لحق المواطنين في إعلام يترجم تطلعاتهم ويحترم ذكاءهم ويعكس مطالبهم، ويوفر لهم المعلومة، ويساهم في الرفع من مستوى النقاش العمومي.
- دعوة كل المنابر الصحافية وعموم الصحافيات والصحافيين إلى احترام مقتضيات ميثاق أخلاقيات المهنة، ومحاربة كل المظاهر التي تسيئ لنبل المهنة وتقاليدها الكونية.