آراءسلايدشو

التدبير الحر للجماعات الترابية بين النص والممارسة

عبد الصمد سكال

لقد شكل التنصيص في الدستور لأول مرة سنة 2011 على مبدأ التدبير الحر للجهات وباقي الجماعات الترابية لشؤونها واحدا من أهم التعديلات الدستورية ذات الصلة بتعزيز الديموقراطية المحلية ببلدنا. حيث نص الفصل 136 من الدستور على أن ” التنظيم الجهوي والترابي يرتكز على مبادئ التدبير الحر، وعلى التعاون والتضامن، ويؤمن مشاركة السكان المعنيين في تدبير شؤونهم، والرفع من مساهمتهم في التنمية البشرية المندمجة والمستدامة.” كما جاءت القوانين التنظيمية للجماعات الترابية مستحضرة لهذا المبدأ الدستوري، حيث نصت المادة 4 من القانون التنظيمي 111.14 المتعلق بالجهات والمواد 3 من القانونين التنظيميين 113.14 المتعلق بالجماعات و112.14 المتعلق بمجالس العمالات والأقاليم، على أن تدبير الجماعات الترابية لشؤونها يرتكز على مبدأ التدبير الحر الذي يخول بمقتضاه لكل جماعة ترابية، في حدود اختصاصاتها المنصوص عليها في القوانين التنظيمية المشار إليها أعلاه، سلطة التداول بكيفية ديمقراطية، وسلطة تنفيذ مداولاتها ومقرراتها، طبقا لأحكام هذه القوانين التنظيمية والنصوص التشريعية والتنظيمية المتخذة لتطبيقها.  وفي هذه الورقة سنعمل على تناول موضوع التدبير الحر للجماعات المحلية عبر المحاور التالية: 1. مبدأ التدبير الحر 2. ترجمة هذا المفهوم على مستوى القوانين التنظيمية الثلاث للجماعات الترابية 3. مدى احترام هذا المبدأ على مستوى النصوص القانونية وفي الممارسة العملية 4. خلاصات   1. مبدأ التدبير الحر:  بالعودة إلى الدستور نجد أن التدبير الحر قد ورد في فصلين: – الفصل 136 الذي ينص على ما يلي: ” يرتكز التنظيم الجهوي والترابي على مبادئ التدبير الحر، وعلى التعاون والتضامن؛ ويؤمن مشاركة السكان المعنيين في تدبير شؤونهم، والرفع من مساهمتهم في التنمية البشرية المندمجة والمستدامة.” – وفي الفصل 146 الذي يحدد القضايا التي يجب أن تحدد بقانون تنظيمي، حيث جاء في البند الأخير منه، أن القانون التنظيمي يحدد: “قواعد الحكامة المتعلقة بحسن تطبيق مبدإ التدبير الحر، وكذا مراقبة تدبير الصناديق والبرامج وتقييم الأعمال وإجراءات المحاسبة”. بحيث نجد أن الدستور يؤكد على أن التنظيم الجهوي والترابي يتعين أن يرتكز على مبادئ التدبير الحر، وهو ما يجعل من التدبير الحر أحد المرتكزات والمبادئ الدستورية الحاكمة في بناء منظومة اللامركزية.  كما تم التنصيص في الدستور على أن القانون هو الذي سيحدد قواعد الحكامة المتعلقة بحسن تطبيقه. وعند محاولة تحديد المراد بالضبط بمفهوم التدبير الحر لا نجد له تعريفا سوى ما ورد في المواد 4 من القانون التنظيمي للجهات و3 من القانونين التنظيمية للجماعات ومجالس العملات والأقاليم، أي أن تطبيق مقتضيات التدبير الحر يعني: تمكين الجماعات الترابية من سلطة التداول بكيفية ديمقراطية، وسلطة تنفيذ مداولاتها ومقرراتها، طبقا لأحكام القوانين التنظيمية المنظمة لها والنصوص التشريعية والتنظيمية المتخذة لتطبيقها.  وإذا كان هذا التحديد عاما ومضيقا لمفهوم التدبير الحر، فإن البحث في الموضوع يستفاد منه أن هذا المبدأ يفتقد إلى تعريف قانوني دقيق، والأمر هنا لا يقتصر على المغرب، بل نفس الأمر ينطبق على الحالة الفرنسية مثلا.  غير أنه بالبحث في عدد من المراجع التي تناولت هذا الموضوع نجد أنها تتفق عموما على أن “التدبير الحر هو مبدأ دستوري يعطي للجماعات الترابية إمكانية تدبير شؤونها بحرية ودون رقابة مبالغ فيها، باعتبار أنه في كل التجارب هناك مستويات من المراقبة تمارسها السلطة المركزية أو السلطات الرقابية ذات الطبيعة القضائية، غير أنها يجب أن تبقى في حدود معقولة لا تخل بمبدإ التدبير الحر.  وهناك من ذهب إلى أن هذا المبدأ، وفي غياب تعريف محدد له، يتعلق بالأساس بمبدإ لحماية الجماعة الترابية من تدخل الدولة في مجالها كما هو محدد في القانون. وعموما فإن هذا المبدأ يحيل عموما، وفق الأدبيات والدراسات المنجزة في الموضوع، على توفر المقتضيات التالية في المنظومة القانونية المؤطرة لعمل الجماعات الترابية: – توفر الجماعات الترابية على مجالس منتخبة ذات اختصاصات فعلية وسلطة تنظيمية لممارستها – التوفر على الاستقلال المالي – التوفر على صلاحية إحداث وإلغاء المناصب المالية والتوظيف وتدبير مواردها البشرية – التوفر على صلاحية إبرام العقود والاتفاقيات – التوفر على صلاحية تحديد قواعد اشتغالها الداخلية، على أن هذه القواعد يمكن أن تكون مؤطرة بقوانين وخاضعة لمراقبة القضاء الإداري – وجود مراقبة إدارية في إطار الحفاظ على وحدة الدولة واحترام النظام القانوني العام للبلد وفي غياب تعريف مدقق ومحدد لهذا المبدأ، فإن احترامه يبقى رهينا بمدى مراعاة القوانين المنظمة للجماعات الترابية للنقط الواردة أعلاه، كما أن دور القضاء الدستوري يعتبر مركزيا في حمايته خاصة عند إقرار قوانين قد تمس به بشكل كبير. وجدير بالذكر أن اجتهادات مجلس الدولة الفرنسي قد اعتبرت هذا المبدأ من الحريات الأساسية عند بته في عدد من النزاعات المرفوعة إليه. كما يمكن القول أن أحد المعاني الأساسية لمبدأ التدبير الحر هو إلغاء مفهوم الوصاية على الجماعات الترابية، بما تسمح به من صلاحيات لمن يمارس هذه الوصاية أن يتدخل في مشروعية وجدوى قرار الجماعة الترابية على السواء، والاستعاضة عنه بمفهوم المراقبة الإدارية بما هي سلطة مراقبة المشروعية فقط. فإلى أي حد ترجمت القوانين التنظيمية للجماعات الترابية بالمغرب هذا المبدأ، ذلك ما سيتم تناوله في المحور الموالي.  2. ترجمة هذا المفهوم على مستوى القوانين التنظيمية الثلاث للجماعات الترابية بشكل عام يمكن القول بأن القوانين التنظيمية الثلاث للجماعات الترابية قد احترمت بشكل عام مقتضيات التدبير الحر في موادها، مع بعض الملاحظات التي سيتم التطرق إليها في المحور الموالي. بل أكثر من ذلك، نجد أن الدستور قد نص على عدد من المقتضيات المشار إليها في المحور السابق باعتبارها مجسدة لمفهوم التدبير الحر. حيث نجد أن الفصل 138 قد نص على أن رؤساء مجالس الجهات، ورؤساء مجالس الجماعات الترابية الأخرى، هم من يقومون بتنفيذ مداولات هذه المجالس ومقرراتها. ونص الفصل 140 على أن للجماعات الترابية، وبناء على مبدإ التفريع، اختصاصات ذاتية واختصاصات مشتركة مع الدولة واختصاصات منقولة إليها من هذه الأخيرة. وأنها تتوفر في مجالات اختصاصاتها، وداخل دائرتها الترابية، على سلطة تنظيمية لممارسة صلاحياتها. كما نص الفصل 141 على أن الجهات والجماعات الترابية الأخرى، تتوفر على موارد مالية ذاتية، وموارد مالية مرصودة من قبل الدولة. وأن كل اختصاص تنقله الدولة إلى الجهات والجماعات الترابية الأخرى يكون مقترنا بتحويل الموارد المطابقة له. وبالتالي فالدستور قد قرر بعضا من المبادئ التي تعتبر من المحددات الرئيسة لاحترام مبدأ التدبير الحر في المواد المشار إليها أعلاه وفي المادة 146 المتعلقة بأدوار الولاة والعمال والتي تطرقت للمراقبة الإدارية، وهذه المحددات هي على التوالي: – توفر الجماعات الترابية على مجالس منتخبة ذات اختصاصات فعلية وسلطة تنظيمية لممارستها – التوفر على الاستقلال المالي – وجود مراقبة إدارية في إطار الحفاظ على وحدة الدولة واحترام النظام القانوني العام للبلد أما بالنسبة للقوانين التنظيمية الثلاث، وعند البحث عن مواطن ذكر “التدبير الحر” فنجد أنه وردفي ثلاث مواد فقط، وهي المادة الأولى المخصصة لتحديد عناوين الأقسام التي تتضمنها هذه القوانين، تم في المواد 4 من القانون التنظيمي 111.14 المتعلق بالجهات والمواد 3 من القانونين التنظيميين 113.14 المتعلق بالجماعات و112.14 المتعلق بمجالس العمالات والأقاليم، التي نصت على أن تدبير الجماعات الترابية لشؤونها يرتكز على مبدأ التدبير الحر الذي يخول بمقتضاه لكل جماعة ترابية، في حدود اختصاصاتها المنصوص عليها في القوانين التنظيمية المشار إليها أعلاه، سلطة التداول بكيفية ديمقراطية، وسلطة تنفيذ مداولاتها ومقرراتها، طبقا لأحكام هذه القوانين التنظيمية والنصوص التشريعية والتنظيمية المتخذة لتطبيقها.  تم في المادة الأولى في القسم الثامن والمعنون من القوانين التنظيمية الثلاث ب “قواعد الحكامة المتعلقة بحسن تطبيق مبدأ التدبير الحر”، وهي على التوالي المواد 234 في القانون 111.14 و213 في القانون 112.14 و269 في القانون 113.14، حيث ورد في هذه المواد بأن المراد في مدلول هذه  القوانين التنظيمية بقواعد الحكامة المتعلقة بحسن تطبيق مبدأ التدبير الحر العمل على الخصوص على احترام المبادئ العامة التالية:  – المساواة بين المواطنين في ولوج المرافق العمومية التابعة للجهة؛ – الاستمرارية في أداء الخدمات من قبل الجهة وضمان جودتها؛ – تكريس قيم الديمقراطية والشفافية والمحاسبة والمسؤولية؛ – ترسيخ سيادة القانون؛ – التشارك والفعالية والنزاهة. حيث يلاحظ كيف تم الانتقال بمفهوم التدبير الحر من منطق ضمان استقلال الجماعات الترابية في تدبير شؤونها في علاقتها بالدولة إلى مجال إجراءات الحكامة الجيدة، ولعل ذلك جاء في إطار ترجمة غريبة لمقتضيات البند الأخير من الفصل 146  من الدستور الذي يحدد القضايا التي يجب أن تحدد بقانون تنظيمي، حيث جاء في هذا البند، أن القانون التنظيمي يحدد: “قواعد الحكامة المتعلقة بحسن تطبيق مبدإ التدبير الحر، وكذا مراقبة تدبير الصناديق والبرامج وتقييم الأعمال وإجراءات المحاسبة”. والبديهي أن إشارة الدستور تنصرف إلى القواعد العامة لحكامة الجماعات الترابية بما يضمن احترام مبدأ التدبير الحر، وليس مبادئ “الحكامة الجيدة أو الرشيدة”، التي تحيل على قواعد التدبير الشفاف والنزيه والناجع والتشاركي. وبالرغم من هذه الملاحظة التي تبين عن تحوير لمفهوم التدبير الحر، فإنه تجدر الإشارة إلى أن المواد والمقتضيات التي ذكرناها في المحور السابق والتي تعتبر ترجمة لهذا المبدأ نجد أنها عموما حاضرة في القوانين التنظيمية الثلاث، حيث نجد أن هذه القوانين قد: – جعلت الانتخاب الحر قاعدة لانتخاب أعضاء المجالس وهيئاتها، كما حددت اختصاصاتها الذاتية والمشتركة والمنقولة، ونصت على أن رؤساءها يتوفرون على السلطة التنظيمية  – ونصت على الاستقلال المالي للجماعات  – وجعلت صلاحية إحداث وإلغاء المناصب المالية والتوظيف وتدبير الموارد البشرية من اختصاصات الرئيس – وأعطت المجالس صلاحية إبرام العقود والاتفاقيات – ونصت على وجوب المصادقة على نظام داخلي للمجالس – ووضعت قواعد ممارسة المراقبة الإدارية على أعمال المجالس والرؤساء – وجعلت صلاحية البت في الاختلاف من اختصاص القضاء الإداري، ونفس الأمر بالنسبة لعزل المنتخبين وحل المجالس. مما يمكن معه القول بأن القوانين التنظيمية قد احترمت إلى حد بعيد مبدأ التدبير الحر، غير أن بعض المقتضيات والمواد تطرح مع ذلك بعض الإشكالات حول مدى احترام هذا المبدأ. وهو ما سيتم التطرق إليه في المحور الموالي.  3. مدى احترام هذا المبدأ على مستوى النصوص القانونية وفي الممارسة العملية سنحاول في هذا المحور الجواب على السؤال المطروح في العنوان على مستويين: – المقتضيات والمواد التي تطرح إشكالات – بعض الممارسات التي لا تحترم هذا المبدأ  3-1  المقتضيات والمواد التي تطرح إشكالات لتناول هذه النقطة، وأخذا بعين الاعتبار أن قواعد تدبير المستويات الثلاث للجماعات الترابية بشكل عام هي نفسها، مع بعض التمايزات المحدودة، فسوف نعتمد أساسا على مقتضيات القانون التنظيمي للجهات، وبديهي أن الملاحظات التي سيتم طرحها تسري على القوانين الثلاث. وسيتم اعتماد تبويب القوانين في طرح الملاحظات: – نصت القوانين التنظيمية الثلاث على أن للوالي والعامل أن يقترحا إدراج أي نقطة في دورات المجالس، ولا سيما تلك التي تكتسي طابعا استعجاليا، ويتم ذلك وجوبا شريطة إخبار رئيس المجلس داخل أجل ثمانية أيام من التوصل بجدول الأعمال. لقد جاءت هذه المادة عامة، وأعطت صلاحية كبيرة للوالي أو العامل لاقتراح أي نقطة، مما يعتبر مسا باستقلالية المجالس وتدخلا مباشرا في تدبير شؤونها وفي برامج عملها، خاصة عندما يتم اقتراح نقط تتعلق بمشاريع أو اتفاقيات فيها إلزام مالي للجماعات.  مما يتطلب مراجعة هذا المقتضى إما بالحذف أو بتحديد الحالات التي يمكن فيها أن يكون هناك اقتراح من الوالي أو العامل، مع إعطاء صلاحية للمكتب لاتخاذ القرار بشأن برمجتها من عدمه في دورات المجالس. – بالنسبة للاختصاصات، فإن عدم تدقيق تعريفها وتأخر النقل الفعلي لها، خاصة بالنسبة للجهات، وعدم الاحترام الفعلي لمبدئ التفريع، حيث هناك تداخلات كثيرة بين اختصاصات المستويات الثلاث للجماعات الترابية، وخاصة مع الدولة، يؤدي إلى عدم احترام  أدوار هذه الجماعات وتدخل إدارات الدولة والمؤسسات العمومية في عدد من مجالات اختصاصها، مما يعتبر إخلالا كبيرا بمبدإ التدبير الحر للجماعات الترابية، ويستوجب العمل على مراجعة الاختصاصات بما يحترم مبدأ التفريع والعمل على النقل الفعلي للاختصاصات الذاتية، مع التقليص إلى الحد الأدنى من تلك المشتركة. – في الباب المتعلق بالمراقبة الإدارية، وباستحضار ما له علاقة مباشرة بمبدأ التدبير الحر فقط، نتوقف عند  المادة التي تحدد المقررات التي تخضع للتأشير، وهنا وجبت الإشارة إلى ان اعتماد مبدأ التدبير الحر، بما يعنيه من وجوب توفر الجماعات الترابية على اختصاصات فعلية وسلطة تنظيمية لتنفيذها، يفيد تقليص سلطة المراقبة والتأشير في الحد الأدنى، مع  جعله ينضبط لثلاث محددات رئيسة : 1)مراقبة مشروعية القرار ، 2) الحرص على احترام التوجهات العامة للسياسة العامة للدولة على مستوى البرامج  و 3) الحفاظ على التوازنات المالية للدولة وللجماعات الترابية. من هنا فإن أغلب النقط ذات العلاقة بوجوب التأشير على برامج العمل والتنمية والمقررات المتعلقة بهيكلة إدارة الجماعات الترابية وإحداث شركات التنمية ومجموعات الجماعات والميزانية والعلاقات الخارجية متفهمة، بينما غيرها لا مبرر له.  كما أن البند المتعلق بالمقررات ذات الوقع المالي جاء عاما ويعرف توسعا غير مبرر في تطبيقه، حيث يتعين مراجعته ليتم الاقتصار على الحالات المذكورة فيه على سبيل المثال (أي الاقتراضات والقرارات ذات الطبيعة الجبائية). أما باقي المقررات التي تندرج في إطار تطبيق برامج التنمية الجهوية وبرامج عمل الجماعات ومجالس العمالات والأقاليم وفي إطار تنفيذ الميزانيات المؤشر عليها فلا معنى لإخضاعها للتأشير. كما يتعين تدقيق مفهوم التأشير وحدود صلاحيات سلطة التأشير. – إخضاع الوكالات الجهوية لإنجاز المشاريع وشركات التنمية للمراقبة المالية لمديرية المؤسسات العمومية ومساهمات الدولة فيه مس بمبدأ التدبير الحر وإخضاع مؤسسات الجماعات الترابية لمراقبة مزدوجة، باعتبار أن مديرية المؤسسات العمومية ومساهمات الدولة عند مراقبتها للمؤسسات العمومية تتوسع لتراقب حتى الجدوى، وليس فقط المشروعية. هذه  كما أن كون الوكالات الجهوية لإنجاز المشاريع مؤسسات تابعة للجماعات الترابية يصبح معه من المنطقي أن تخضع لنفس القواعد المطبقة على الجماعات الترابية في مجال التدبير المالي. – إخضاع الجماعات الترابية لافتحاص مفتشيتي المالية والإدارة الترابية كذلك لا ينسجم مع مبدأ التدبير الحر، باعتبار هاتين المفتشيتين تا بعتين للإدارة ووظيفتهما الرئيسة مراقبة الإدارات العمومية والمؤسسات العمومية، والحاصل أن المراقبة والافتحاص، كما هو منصوص عليه في القوانين التنظيمي والقانون المتعلق بالمحاكم المالية، يتعين أن يكون إما بقرار للمجلس، أو من طرف المحاكم المالية باعتبارها مؤسسات دستورية مستقلة ومتخصصة في هذا المجال.  3-2 بعض الممارسات التي لا تحترم هذا المبدأ إذا كانت القوانين التنظيمية بشكل عام قد احترمت مبدأ التدبير الحر للجماعات الترابية، مع مراعاة الحاجة لتجويدها بما يمكن من تجاوز الملاحظات الواردة أعلاه وتلك التي سيترد في هذه الفقرة، فإن الممارسة على عدة مستويات تمس بشكل عميق بهذا المبدأ، وسنتطرق فيما يلي إلى بعض أهم هذه الممارسات: – إذا كان من مستلزمات مبدأ التدبير الحر احترام استقلالية الجماعات الترابية وتمتعها باختصاصات حقيقة وسلطة تنظيمية لممارسة اختصاصاتها، وهو ما يستوجب كذلك أن يكون تنظيمها خاضعا بالأساس لسلطة القانون وسلطتها التنظيمية. وهو ما ينسجم مع مقتضيات الدستور. بحيث أنه وبالعودة لنص الدستور نجد أنه مقسم لأبواب منفصلة، حيث السلطة التنفيذية مفصلة في باب والجماعات الترابية في باب آخر. فقد نص الفصل 136من الدستور على ارتكاز التنظيم الجهوي والترابي على مبادئ التدبير الحر، والذي يعني تمتعها باستقلالية تامة عن السلطة التنفيذية وتوفرها على كل الصلاحيات والهياكل التي تمكنها من تدبير شؤونها بشكل مستقل. كما نص الفصل 71 من الدستور على أن نظام الجماعات الترابية ومبادئ تحديد دوائرها الترابية يندرج في إطار اختصاص التشريع. وجاءت الإشارة لنظام الجماعات الترابية عامة. بالمقابل فقد نص الفصل 72 على أن المجال التنظيمي يختص بالمواد التي لا يشملها اختصاص القانون. وحدد الفصل 89 اختصاص الحكومة في ممارسة السلطة التنفيذية، مع تدقيق أن الحكومة تعمل، تحت سلطة رئيسها، على تنفيذ البرنامج الحكومي وعلى ضمان تنفيذ القوانين. والإدارة موضوعة تحت تصرفها، كما تمارس الإشراف والوصاية على المؤسسات والمقاولات العمومية. ولم يتم إدراج الجماعات الترابية نهائيا في هذا الباب، مما يجعلها خارج السلطة التنظيمية للحكومة، وبالتبع فحدود تدخل الحكومة بنصوص تنظيمية وجب أن يقتصر على المقتضيات ذات العلاقة بتدخل الحكومة في علاقتها بالجماعات الترابية، دون التوسع لتنظيم ما يتعلق بالجماعات الترابية، الذي يبقى حصريا من اختصاص التشريع، مع مراعاة توفر هذه الجماعات على سلطة تنظيمية لممارسة صلاحياتها في مجالات اختصاصاتها، وداخل دائرتها الترابية، طبقا لمقتضيات الفصل 140 من الدستور. كما أن الفصل 90 من الدستور قد حدد أن رئيس الحكومة يمارس السلطة التنظيمية، ويمكن أن يفوض بعض سلطه إلى الوزراء. وأن المقررات التنظيمية الصادرة عن رئيس الحكومة تحمل التوقيع بالعطف من لدن الوزراء المكلفين بتنفيذها. ومن البديهي أن كل ما يتعلق بالجماعات الترابية سلطة التنفيذ فيه هي اختصاص للجماعات الترابية بمقتضى نص المادة 140 من الدستور وفق ما هو مشار إليه في الفقرة السابقة.  كما أن الدستور حدد بوضوح في فصله 93 اختصاصات الوزراء على الشكل التالي: الوزراء مسؤولون عن تنفيذ السياسة الحكومية كل في القطاع المكلف به، وفي إطار التضامن الحكومي. يقوم الوزراء بأداء المهام المسندة إليهم من قبل رئيس الحكومة، ويطلعون مجلس الحكومة على ذلك. وهو ما يؤكد أنهم مسؤولون عن تنفيذ ما يهم قطاعاتهم، وبالتبع ليس من اختصاصهم تنظيم أو وضع قواعد تنظيم عمل الجماعات الترابية التي توجد خارج سلطتهم وتتمتع بالتدبير الحر. وقد حدد الدستور بوضوح الجهة المخول لها ممارسة المراقبة الإدارية على الجماعات الترابية في الولاة والعمال في الفصل 145، وحددت القوانين التنظيمية قواعد تطبيقها. كما أن الفصل 146 حدد بوضوح أن قانونا تنظيميا سيحدد بصفة خاصة: • شروط تدبير الجهات والجماعات الترابية الأخرى لشؤونها بكيفية ديمقراطية، وعدد أعضاء مجالسها، والقواعد المتعلقة بأهلية الترشيح، وحالات التنافي، وحالات منع الجمع بين الانتدابات، وكذا النظام الانتخابي، وأحكام تحسين تمثيلية النساء داخل المجالس المذكورة؛ • شروط تنفيذ رؤساء مجالس الجهات ورؤساء مجالس الجماعات الترابية الأخرى لمداولات هذه المجالس ومقرراتها، طبقا للفصل 138؛ • شروط تقديم العرائض المنصوص عليها في الفصل 139، من قبل المواطنات والمواطنين والجمعيات؛ • الاختصاصات الذاتية لفائدة الجهات والجماعات الترابية الأخرى، والاختصاصات المشتركة بينها وبين الدولة والاختصاصات المنقولة إليها من هذه الأخيرة طبقا للفصل 140؛ • النظام المالي للجهات والجماعات الترابية الأخرى؛ • مصدر الموارد المالية للجهات وللجماعات الترابية الأخرى، المنصوص عليها في الفصل 141؛ • موارد وكيفيات تسيير كل من صندوق التأهيل الاجتماعي وصندوق التضامن بين الجهات المنصوص عليها في الفصل 142؛ • شروط وكيفيات تأسيس المجموعات المشار إليها في الفصل 144؛ • المقتضيات الهادفة إلى تشجيع تنمية التعاون بين الجماعات، وكذا الآليات الرامية إلى ضمان تكييف تطور التنظيم الترابي في هذا الاتجاه؛ • قواعد الحكامة المتعلقة بحسن تطبيق مبدإ التدبير الحر، وكذا مراقبة تدبير الصناديق والبرامج وتقييم الأعمال وإجراءات المحاسبة.  انطلاقا مما سلف يتبين أن اعتماد مبدإ التدبير الحر في الدستور وباقي المقتضيات، تفيد إلغاء منطق الوصاية وتعويضه بمنطق المراقبة الإدارية، التي تقتصر على مراقبة مشروعية القرارات، بحيث أنه حتى بالنسبة للمقررات الخاضعة لنوع من المراقبة تم التنصيص على التأشير عليها وليس المصادقة عليها، من هنا لم تعد لأي قطاع حكومي صلاحية تحديد قواعد اشتغال الجماعات الترابية، وأصبح ذلك من اختصاص القانون. وعليه فلجوء الحكومة لاستعمال سلطتها التنظيمية وجب أن يراعي مبادئ الدستور وفصوله وأن يكون في أضيق الحالات التي لا تستوجب أو تتطلب اللجوء للقانون، والتي لا يمكن أن تشمل إلا القضايا المتعلقة بعلاقة السلطة التنفيذية بالجماعات الترابية. والأكيد أن الإحالة على قرارات للوزراء في المراسيم التطبيقية في كل ما يتعلق بالجماعات الترابية لا سند قانونيا له بحكم تحديد الدستور اختصاص الوزراء في تنفيذ السياسات العمومية المكلفين بها وما يكلفهم به رئيس الحكومة في حدود اختصاصه. وهو ما تؤكده المراسيم المحددة لاختصاصات الوزراء، حيث تنص بوضوح على أن سلطتهم التنظيمية تبقى محصورة في الاختصاصات المخولة لهم بمقتضى المراسيم المنظمة للقطاعات الحكومية التي يشرفون عليها أو بمقتضى القوانين التي تحيل على قرارات تنظيمية يصدرونها في إطار تنفيذها. من هنا الحاجة لمراعاة مبدأ التدبير الحر في ضوء المقتضيات الدستورية والقانونية التي خولت لرؤساء الجماعات الترابية ممارسة السلطة التنظيمية في مجال اختصاصهم، مما يتطلب العمل على استكمال القوانين التنظيمية عند الاقتضاء أو إصدار قوانين تكميلية لضبط قواعد تدبير الجماعات الترابية، مع تدقيق الحالات التي يمكن إصدار مراسيم بشأنها، والتي لا يمكن إلا أن تكون محدودة ومرتبطة بالأساس بالمجالات المشتركة بين الحكومة والجماعات الترابية. وحتى في هذه الحالة وجب الانتباه إلى ضرورة الاحترام التام لمبدأ التدبير الحر للجماعات الترابية واختصاصات باقي الهيئات كما هي مؤطرة في دستور المملكة والقوانين التنظيمية حتى لا يتم إفراغ هذه الأخيرة من مضمونها وفرض أشكال من التدخل أو الرقابة غير منصوص عليها في الوثيقة الدستورية والقوانين التنظيمية ذات الصلة. وحيث أن اللجوء لإصدار قرارات وزارية في موضوع تدبير الجماعات الترابية لا سند دُستوري له ولو نصت عليه بعض القوانين، سيكون من المفيد جدا ومن أجل التوافق على ما هو خَارج ما تنص عليه القوانين والمراسيم التطبيقية لها، أن يتم التنسيق التام بين القطاعات الحكومية المعنية وجمعيات رؤساء الجماعات الترابية (جمعية رؤساء الجهات، جمعية رؤساء مجالس العمالات والأقاليم، جمعية رؤساء الجماعات) ليتم اعتمادها على شكل قرارات تنظيمية لرؤساء الجماعات الترابية.  أما التدخل في تنظيم عمل الجماعات الترابية بمقتضى مناشير وزارية فهو بالتأكيد فاقد لأي سند قانوني ويضرب في الصميم مبدأ التدبير الحر. – تبعا لما سلف وبغض النظر عم قانونية اللجوء أصلا لممارسة السلطة التنظيمية للوزراء في علاقتهم بالجماعات الترابية، فإن مضامين عدد من هذه القرارات والمراسيم التنظيمية تعطي الإدارة من خلالها لنفسها صلاحيات لا تراعي روح الدستور والقانون التنظيمي ولا تراعي مبدأ التدبير الحر. ولا يتسع المجال لذكر أمثلتها الكثيرة في هذه الورقة. – في عدد كبير من الحالات يتم إحداث شركات التنمية التابعة للجماعات الترابية بمبادرة من الولاة والعمال ويسندون لأنفسهم رئاسة مجاسها الإدارية، وهو ما يعتبر إخلالا واضحا بمقتضيات مبدأ التدبير الحر، بل وروح ومنطوق القوانين التنظيمية، باعتبار هذه الأخيرة هي التي تنظم هذه الشركات وتجعلها من أدوات اشتغال الجماعات الترابية، وبالتالي فالطبيعي والمنطقي أن تكون تابعة لها بشكل رئيس وأن تكون مسؤولة بشكل مباشر عن تدبيرها بغض النظر عن مساهمات باقي الشركاء في رأسمالها. – نصت القوانين التنظيمية على أن دعوة مسؤولي الإدارات  والمؤسسات العمومية على المستوى الترابي للدورات يكون تحت إشراف الوالي أو العامل، وهو أمر مقصود منه ضمان حضورهمـ باعتبار أهمية دورات المجالس، وذلك باعتبار الوالي والعامل دستوريا لهم صلاحية تنسيق المصالح الخارجية للدولة، غير أن هناك نزوعا لدى عدد من الولاة والعمال إلى تعميم الأمر على جميع المراسلات المتبادلة بين الجماعات الترابية والإدارات في تجاوز لمقتضيات القوانين التنظيمية، بل الأدهى استغلال الأمر لممارسة وصاية ورقابة خارج الضوابط والمقتضيات المنصوص عليها في القوانين التنظيمية على عمل الجماعات الترابية، تفرغ هذه القوانين من مضمونها وتمس بشكل فاحش بمبدأ التدبير الحر.  4. خلاصات  إن موضوع مبدأ التدبير الحر يتجاوز أن يكون موضوع مقتضيات قانونية وفصول ومواد، بل هو يشكل صلب رهان ترسيخ الديموقراطية المحلية في بلدنا، وهو ما يجعله يشكل موضوع مقاومات لهذا السبب. ولكن ليس ذلك فقط، بل إنه يواجه مقاومة، تكاد تكون طبيعية، مرتبطة بمحاولة مختلف الفاعلين الأخرين الحفاظ على ما كان لديهم من سلطة سواء كانت مستندة للمقتضيات القانونية السابقة أو لما ترسخ من ممارسات. بل في أحايين كثيرة يساهم بعض المنتخبين في المس بهذا المبدأ استصحابا منهم هم كذلك للممارسات المتوارثة. من هنا الحاجة للاتفاق على قراءة موحدة لمفهوم التدبير الحر وإلى استراتيجية عمل، إصلاح القوانين ومراجعة طريقة التشريع والتنظيم، ليسا إلا أحد مكوناتها. كما أن هناك حاجة ماسة للتركيز على وجوب استكمال الترسانة القانونية للجماعات الترابية بمراجعة كل القوانين السابقة، خاصة تلك المتعلقة بالتدبير المالي للجماعات الترابية، وقانون الوظيفة العامة الترابية مع العمل على تفصيلها إلى اقصى حد ممكن، وتقييد اللجوء للنصوص التنظيمية. 

Leave A Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *