بقلم: عبد الرحيم الصالحي
ضمن فعاليات مهرجان إسني ن ورغ الدولي للفيلم الأمازيغي برمجة غنية استوقفني فيها فيلم “حراكة” للمخرج الألماني “بنجامان روست”، الذي تمكن من أسر الجمهور بأسلوب سلس وبسرد سينمائي ولغوي بسيط ومعقد.
“نخدم وندير المستقبل ديالي حتى أنا”، جملة ترددت صداً طيلة دقائق الفيلم الوثائقي “حراكة” للمخرج الألماني “بنجمان روست، هي الغاية والحلم والأمل والمستقبل، قد يتحقق وقد ينكسر كما أمواج البحر المتلاطم على صخور ميناء “مليلية”، ليتخذ الفيلم مسارات متباينة ما بين الندم والأمل ودموع وفرح.
يسرد الفيلم الوثائقي “حراكة”، الذي تم عرضه ضمن فعاليات الدورة 15 ل “مهرجان إسني ن ورغ الدولي للفيلم الأمازيغي” بأكادير، واقع أطفال ومراهقين مغاربة اتخذوا من جنبات مرفئ ميناء “مليلية” مأوى لهم في انتظار عبّارة تنقلهم نحو حلم يسكنهم في “أوروبا” إما جثثا أو في غيابات السجون، وإما نحو “الحرية” الهدف المنشود.
الأمل في الجماعة
يُلامس المخرج الألماني “بنجمان روست” في هذا الفيلم بقصد أو عن غير قصد، ملمحا حاضرا بقوة في تجمعات الشباب الراغب في الحريك، وهو العمل في الجماعة والاحتكام لها دون قيد أو شرط، يتسيدها من طال به المقام منتظرا لحظة العبور، فهو الخريت العارف بتفاصيل الميناء والمنقذ الملهم لكل من التحق حديثا، منتظمين داخل مجموعات تتكون اعتباطيا وتوحدهم غاية واحدة، ولكل جماعة ملجأ وأسرار وخطط تكاد تتفرد بها عن غيرها، وبينهم وسيط يتقفى الأخبار بين المجموعات لمعرفة تفاصيل كل العبّارات بالميناء والشرطة المترصدة لكل من اقترب نحو السياج.
الجماعة صمام الأمان، والمنقذ عند الشدائد والمحن والصعاب، خاصة أثناء وجود نزاعات أو خلافات بين الحراكة الآخرين، فالكل ينتصر لمجموعته وكأنها قبيلته أو تكاد. تعتبر المجموعة كذلك الضامنة للاستقرار النفسي لأعضائها، تجد بعضهم يُسدي النصائح لآخرين، يٌنظّمون جلسات للتفريغ والترويح عن النفس و تقاسم المشاكل في ما بينهم ومعرفة طموح كل واحد منهم وأسباب رغبته في الهجرة، بهذه الطريقة يبقى أعضاء الجماعة متحدين ومتلاحمين حتى بعد العبور، حيث يظهرهم الفيلم متواصلين دوما ومضطلعين لمعرفة أخبار بعضهم البعض والتعاون في ما بينهم خصوصا لمن لم يتمكن من تحقيق ذاته . بهذه الطريقة تصبح المجموعة عامل أساسي في بناء الثقة أول في نفسية كل “الحراكة”، ومن جهة أخرى تلملم وتعوض النقص الحاصل لدى كل أفرادها بتحقيق الانتماء الجمعي الذي افتقده كل فرد في قريته ومدينته ومحيطه، هذا الانتماء المتَّقد نار في نفوسهم والدافع على البحث عن التغيير والأمل يرود بطريقة ما النفوس والأجساد الضعيفة المترهلة للتأهب نحو استقبال عالم جديد لغة ثقافة سلوكا ودينا.
تشرد وإدمان، أم ترقب وانتظار
حالة الحريك والترقب التي يعيشها أبطال الفيلم جعلتهم في روتين يومي قاتل، ما بين الأمل والبحث عن لقمة العيش وترقب العبّارات القادمة للميناء بين الفينة والأخرى، وبين فهم تحركات الشرطة التي لا تتوقف، حالة الفراغ هذه تتغذى بالإدمان الفاحش، فأغلب أبطال الفيلم وحتى الشخصيات الثانوية والثانوية جدا مدمنين، فأصبح الإدمان حالة متلازمة نفسية ظاهرة في الفيلم، قد تعكس ضعف الشخصيات التواقة إلى “أوروبا”، وقد تكون المسكن المهيج لنسيان واقع أليم متعطش للبحر وما ورائه، أو لنسيان ما خلفه وراءه من هموم ومشاكل لم يستطع تحمل عبئها. إن صورة الإدمان غير المنضبط في الفيلم تجعل التعاطف مع هذه الفئة يذبل بمجرد رؤيتهم في حالة السكر وإدمان المخدرات بشتى أنواعها.
الأم حبل الماضي الذي لا ينقطع
كثيرة هي الأفلام التي عالجت تيمة الهجرة بأساليب شتى، لكن “بنجامان” أضفى عليها خصلة هي منتهى كل تغيير ينشده كل باحث عن الحريك، حبل ودّ يجمع الماضي بالحضر والمستقبل، هي الأم التي يسعى كل “حراك” وراء رضاها وتغيير واقعها وعيشها أولا وأخيرا، علاقة الأم بأبطال الفيلم هي الموقد لكل رغبة في الحريك، والمكفكف لكل الآهات والأنيس عن الوحدة والانهيار، هي الشعلة التي تشتعل في كل اتصال، حنين، ترقب، تساؤل، تفاؤل، حيرة، تردد وأمل في تحقيق الغاية الأسمى “الحريك”، صوت الأم في الفيلم نقطة تحول كل بطل، فكل حديث ينتهي بصمت قاتل يعقبه نفس تتهيج لركوب الأمواج دونما تردد، هي همسات تبقى المرشد والمؤنس لهم حالة السكون والتردد.
حضور الأم الرمزي في الفيلم لزعزعة الحزن الدفين داخل أبطال الفيلم لم يكن اعتباطا، فهي ميزان وتر الإحساس التي يشكلها المخرج كلما أحس بالفتور وليعقد الهمم من جديد لجذب الجمهور، هي الوطن الحاضر الغائب التي لا محال ستكون جسر العبور من جديد، لكن- هذه المرة باتجاه المغرب، الأرض الأم بالرغم كل المحن والهموم والفقر، كما هو شأن البطل عماد الذي استدرك العودة نحو وطنه بعد تمام حصوله على الجنسية الإسبانية، ليكون من جديد الملهم والبطل والقدوة لكل من يرغب ركوب البحر .
جعل “بنجمان” نهاية الفيلم حلم يتوقد من جديد لدى كل من يشاهده، حيث استطاع أبطال الفيلم تحقيق أهدافهم والهجرة نحو أوروبا، كل بحسب وجهته، لكن فعل الهجرة مؤكد لن يتوقف مع الأبطال الأربعة للفيلم، هو سيرورة مستمرة وستستمر مادام الشباب يحلم وينشد التغيير في أرض وبلد غير بلده، ربما بأساليب أخرى وطرق ستستجد كلما ضاقت الأفق والمآل.