مستشار سياسي وديبلوماسي مقيم بواشنطن
لا أفهم صمت كل من يتغنى باستقلال القضاء في إسبانيا أو باستقلال صحافتها ويمجدون مثل هذه الدول. صحيح أنه لا مجال للمقارنة بين المغرب وإسبانيا على جميع الأصعدة وأن المغرب لا زال دولة سائرة في طريق النمو وعليها قطع الكثير من الأشواط من أجل العبور للضفة الأخرى وبناء نموذج سياسي واقتصادي يضمن لجميع المواطنين الحق في الحياة بكرامة. إلا أنه علينا ألا ننسى التاريخ وألا ننسى أن ما نعيشه اليوم هو بشكل أو بآخر تبعات لسياق تاريخي معين كان فيه المغرب ضحية لمؤامرات خارجية أدت إلى إضعافه بشكل تدريجي من الداخل وبالتالي تقسيمه. وما قضية الصحراء إلى إحدى الرواسب التي تولدت عن تلك الحقبة التاريخية، التي لا زال أجيال أخرى من المغاربة يدفعون ثمنها.
كما علينا ألا ننسى التاريخ الذي يجمعنا مع إسبانيا وألا ننسى أن هذه الدولة- على غرار دول غربية أخرى- بنت مجدها وقوتها الاقتصادية والعسكرية على أنقاض دول أخرى، والتاريخ شاهد على ما فعلته إسبانيا ضد المغرب بعد حرب تطوان لعام 1859، حينما احتلت تطوان وفرضت على المغرب دفع مبلغ 20 مليون ريال إسباني مقابل الانسحاب من التراب المغربي وتوسيع المنطقة المحايدة المتاخمة لمدينتي سبتة ومليلية والحصول على منطقة نفوذ بشكل أبدي في منطقة سيدي إفني، إلخ.
وكان على المغرب وضع عائداته من الجمارك بين يدي إسبانيا، حتى تضمن هذه الأخيرة الحصول على العقوبة المالية التي فرضتها عليه، هذا دون أن ننسى حصولها على امتيازات أخرى ودون الحديث عن الاتفاق السري الذي وقعته مع فرنسا في شهر أكتوبر 1904 حول تقسيم المغرب، والذي حصلت بموجبه على الصحراء في خرق سافر لاتفاقية الجزيرة الخضراء لعام 1906 التي التزمت فيها كل الدول المشاركة بالحفاظ على الوحدة الترابية للمغرب واستقلاله وسيادة سلطانه.
لماذا تصمت هذه الأصوات بعدما رفض القاضي الاسباني المعني بقضية ابراهيم غالي اتخاذ اي إجراءات احتياطية ضده؟ أين هي استقلالية القضاء؟ هل يتناسى البعض كيف تعامل القضاء الاسباني مع الرئيس الشيلي السابق أوغوستو بينوشي؟ لماذا لم يحظ بينوشي بنفس التعامل؟
نعم لسنا بلداً متقدماً ونظامنا السياسي والقضائي لم يرق بعد لتطلعاتنا، لكن حينما يتعلق الأمر بمسائل قومية أثرت بشكل كبير على ماضي بلادنا وتؤثر بشكل كبير على حاضره ومستقبله، فعلينا- على النخبة السياسية والإعلامية والأكاديمية- أن نسائل الطرف الآخر حول ازدواجية المعايير ونفاقه السياسي وأن نضعه أمام مسؤوليته السياسية والتاريخية. نعم لإسبانيا دين تاريخي تجاه المغرب. وعلى النخبة المغربية أن تطلب من النخبة الاسبانية الكف عن الادعاء بأن لإسبانيا دين تاريخي تجاه مع يسمونه “الشعب الصحراوي”، وهو المفهوم الذي لم يكن له وجود قبل ما بدأت إسبانيا بالترويج له في أواخر الستينيات. علينا أن نذكر هذه النخبة الاسبانية بتاريخ بلادها الملطخ بالدماء المغربية أن نذكرها بما فعلته ضد سكان الريف في العشرينيات من القرن الماضي حينما استعملت أسلحة كيميائية محرمة دوليا ضد المدنيين، مما أدى إلى مقتل الآلاف في أيام معدودة وجعل تلك المنطقة تسجل لحد الآن أعلى مستويات في الإصابة في مرض السرطان. كما على الدولة المغربية أن تفكر بشكل جدي في فتح هذا الملف مع إسبانيا ومطالبتها بدفع تعويضات لسكان تلك المنطقة، خاصةً وأن العديد من الأبحاث أكدت بشكل موثوق أن استعمال الغازات السامة ضد المغاربة كان هو السبب وراء انتشار مرض السرطان هناك. وهناك أحيل على كتابين مهمين وهما Los Moros que Trajo Franco للكاتبة الاسبانية María Rosa de Madariaga والثاني Abrazo Mortal للكاتب البريطاني Sebastain Balfour.
كما علينا أن نذكرها باستعمال المغاربة (حوالي 80 ألف) طعما للمدافع ورمت بهم في أشرس المعارك في الحرب الأهلية وحرمت منطقة الريف من الشباب واليد العاملة القادرة على العمل في الميدان الفلاحي الذي كان هو أهم القطاعات التي كان يعمل فيها سكان المنطقة. كما علينا أن نذكرها بمسؤوليتها التاريخية في ملف الصحراء وكيف استغلت حسن نية المغرب في الستينيات من القرن الماضي وحاولت بناء دويلة على المقاس هناك وكيف عملت بعد فشل تلك الخطة على التواطؤ مع الجزائر لمنع المغرب من استكمال وحدته الترابية. هناك غزارة في الوثائق التاريخية التي تشهد على ذلك، ولكن، مع الأسف، نترك المجال فارغاً للطرف الآخر ليفرض دائما سرديته ويصور الأمور بالشكل الذي يتماشى مع مصالحه.
وماذا عن الصحافة الاسبانية؟ لا أطلب من الكل تعلم اللغة الاسبانية من أجل معرفة ماذا تقول الصحافة الاسبانية هذه الأيام، ولكن بإمكان أي أحد أن يقوم بمجهود لمتابعة ما يجري، وسيرى أن كل وسائل الاعلام الاسبانية تتعاطى مع هذه الأزمة من نفس المقاربة وتعكس بشكل أعمى الموقف الرسمي للحكومة الاسبانية. أنصتت مساء أمس لبرنامج سياسي في إذاعةCadena Ser ولم أسمع سوى استعمال نفس الخطاب المعادي للمغرب وإلقاء اللوم عليه وجعله السبب الرئيسي وراء هذه الأزمة، ولم أسمع أي أحد يشكك في حكمة القرارات التي اتخذتها إسبانيا ضد المغرب، والتي كان آخرها التستر على دخول غالي تراب إسبانيا. الأكثر من ذلك أن أحد الصحفيين العاملين في نفس الاذاعة ردد بشكل قاطع الرواية التي بدأت إسبانيا تروج لها خلال الأيام القليلة الماضية، والتي تفيد بأن غالي لم يدخل بشكل سري وتحت هوية زائفة، بل بجواز سفر جزائري يحمل اسمه الحقيقي. قرأت عشرات التقارير ومقالات الرأي في مختلف الصحف الصحفية ولم أر رأياً مخالفاً أو أي صوت يدعو الحكومة الاسبانية إلى إعادة النظر في طريقة تعاملها مع المغرب واحترام حساسياته ومصالحه.
شخصياً، لم ترقن بأي شكل من الأشكال الطريقة التي تعاملت من خلال السلطات المغربية مع مسألة غض البصر عن دخول المغاربة والأفارقة جنوب الصحراء لمدينة سبتة. كان بالإمكان توجيه رسالة أقوى لإسبانيا دون إعطاء تلك الصورة السلبية عن المغرب ودون السماح للقاصرين لدخول مدينة سبتة المحتلة. أظن أن الطريقة لم تكن هي الأنسب وكان بالإمكان تفادي تلك الصورة.
ومع ذلك، علينا ألا ننسى أن المغرب يواجه حملة إعلامية شرسة من طرف وسائل الاعلام الاسبانية، التي لا تعكس سوى الموقف الرسمي لإسبانيا التي لا ترغب في أن يضع المغرب حدا لنزاع الصحراء المغربية، لأنها تظن بأن نجاحه في ذلك، سيجعله في موقف أقوى من السابق وسيدفعه للتعامل مع إسبانيا بندية وثقة في النفس أكبر من السابق، وربما قد يدفعها لفتح حوار بخصوص مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين.