ذات يوم قررت أن أخرج من رداءة تلك المواقف المنتهية الصلاحية و الساذجة التي كنت عن قناعة مؤمنا بتبنيها باسم التغيير بحيث صرت أشعر بأنني أبيع معلبات فاسدة مر وقت استهلاكها وتحولت من يساري مؤمن بمبادئ الحرية و الكرامة و العدالة الاجتماعية و المساواة إلى مخبر حقير يتجسس على الحروف و النقاط، فبدأ شيء من اليأس و المرارة يملئني خاصة لما أتساءل مع نفسي عن فائدة ما كدست من أحلام طوال سنوات نضالي في صفوف اليسار؟.
أزمة اليسار المغربي احتلت دوماً مكانة مرموقة في مسلسل التأزيم المعتاد فثلةً من اليساريين حيّدت نفسها وقلمها وصوتها عن الرّصد وقرع ناقوس الخطر لمجمل الوقائع و القضايا الساخنة – على رأسها قضايا الاغتيال السياسي – لسببٍ قد يكون أسَّهُ الخوف أو عدم القناعة أو الكفر بالهوية الوطنية من الأساس أو لغايةٍ مُبيَّتة بنفسِ يعقوب، ففي اللحظة التي هم من يشكل الكتلة الواعية الفاعلة في المجتمع ومصدر قوته الحقيقية وطليعته القادرة على تشخيص الوقائع وكشف الخلل واجتراح الحلول وطرح المبادرات وصولاً إلى التغيير الإيجابي المطلوب أفردوا المساحات الكبيرة للحديث عن أزمتهم الخاصة موضحين آثارها وتداعياتها عليهم معللين ذلك بمواقف تُحكم حصاراً حول اليسار ( الاستبداد السياسي، الرأي العام غير المستنير… ) ، فمثل هذه المواقف المنتهية الصلاحية إنما هي بمنزلة تنازلٍ مقصود لدور اليسار المُدَوَّر كالرّصيد المُدوَّر بانتظار ما ستسفر عنه الأحداث من تطورات ونتائج وعندها يصبغ وجهه وقلمه وصوته بالتلوين الذي يشاء ليضع قدمه من جديد على السّكة التي يريد ، إنّ من أبسط واجبات اليسار الذود عن قضايا الحرية و الكرامة و العدالة الاجتماعية و الوقوف في وجه المُرْجفين أصحاب الأقلام المأجورة والوجوه المَسْفوحَة وأرباب الأصوات والمواقف والقنوات المُستلَبة .
نسأل بكل هدوء لماذا هذا الغياب الآثم لعدد من يساريينا عن أوجاع وقضايا وطنهم وشعبهم ومستقبل أبنائه وبناته؟ ولماذا هذا الانكفاء عن ممارسة دورهم التعبوي؟ مع أنّ غالبيتهم ـ ما شاءَ اللهُ – نجومَ في التقاط الصور في الندوات و التجمعات وهم يتشدّقون وينظّرون عن السياسة وعن دور اليسار الرّائد بمجتمعه ووطنه ويؤكدون بلقاءاتهم وندواتهم أنّ من واجب اليساري الغَيور وبدواعي شرف الانتماء أن يكون مدافعاً بقلمه وصوته عن قضايا وطنه أولاً و قبل كل شيء ، يمكن القول إن اليسار المغربي اليوم وفي الأحوال كلها حافظ على خطاب دائري عقيم ولغة تسفيهية وجدل أجوف مستخدم مصطلحات العمالة والتخوين وعازف عن أي فعل إيجابي يمكن أن يطرح بديلاً لائقاً لتبنيه والبناء عليه وبالإضافة إلى تلك بات يسايروا الارتزاق متمرسين في أيديولوجيتهم طالبين من مخالفيهم الاصطفاف خلف تيارهم و الانضمام إليهم والحديث برأيهم وربما استخدام تعبيراتهم وهم جاهزون باتهام مخالفيهم بمواقف كالعمالة إن هم لم يتفقوا مع طروحاتهم وأفكارهم .
إن اليساريين في هذا الزمان المغربي البئيس يرون مفهوم الثورة كما لم يره يساري في العالم فهي الشارع الصاخب المليء بالرؤوس الحامية والفارغة وبالحطام وأشلاء البشر والحرائق ومثلهم مثل منتهزي الفوضى من تجار الدين الذين يضفون على أنفسهم ألقاباً وتوصيفات ولا يرون في الثورة فعلاً تاريخياً بمقومات و شروط وأهداف تبدل طريقة حياة الناس إلى الأرقى والأكثر مدنية ولو سلماً لا على الأوضاع والأكثر همجية وبالدم والموت حصراً، نقرأ اليوم ليساريين مغاربة تنكرّهم لماضيهم السياسيّ والفكريّ ويتّخذون مواقف مخزية ضدّ أوطان تُدمّر فيرون في المتآمرين مُحرّرين وفي الغزاة مُناصرين ولا يفرّون بالقصد بين وطن يحتاج إلى ديمقراطية و ديمقراطية لا تكون إلاّ بوطن فهؤلاء يرون في السياسة مجرد تراكم من المواقف يتزايدون بها على بعضهم البعض حتى وهي مواقف منتهية الصلاحية.
فاليوم لم يعد لليسار بالمغرب ثمة وقت للتسكع ثقافة أو فكراً ولا حتى في المقاهي وعلى الأرصفة ولم يعد ثمة جدوى لمراكمة المزيد من المواقف المنتهية الصلاحية فوق ما تراكم منها ويكاد أن يتعفن ولم يعد ثمة هوامش وأرصفة للحياد أو الصمت واستخدام حاسة النظر فحسب في تأريخ ما يجري وتسجيل وقائعه كما لو أنه يدور في بلاد الواق واق، لا وقت لحياد لمؤرخ منهم ولا لحكمة الفيلسوف ولا لعزلة اليساري الزاهد، نكون جميعاً أو لا نكون فاليوم ثمة لحظة فقط لمحاكمة عقلية يجريها كل من يتبنى الفكر اليساري بينه وبين ذاته بين أن يكون يساريا ملتزماً مبدعاً ورائداً ومبادراً وبين أن يتحول إلى قرص مضغوط على رف مهمل ومغبر أو في جهاز كمبيوتر لا يجيد سوى اللغو والتكرار والاجترار، اليوم ثمة لحظة فقط ليراجع كل منكم المواقف والرؤى المنتهية الصلاحية فلا تعود الثورة فوضى من دم وركام بل حياة جديدة متجددة ولا تعود الديمقراطية صناديق وطوابير وأوراقاً بيضاء بل وعياً وسلوكاً أولاً ولا يعود الوطن سوق بازارات ومساومات بل حرية وسيادة واستقلالاً.
عبد الإله شفيشو / فاس