عبد الرحيم الصالحي/
“ءوسان درنين”
- كرمت فرقة آفاق الجنوب أرواحا أبدعت فنان جميلا وتمردت على الواقع الذي عاشت فيه، روح الكاتب “يوسف فاضل“، الروح العاشقة للمسرح “ثريا جبران“، الروح الملهمة “محمد بسطاوي” والفنان المتأنق “عبد اللطيف خمولي“، من خلال عرض مسرحية “ءوسان درنين” المقتبسة عن مسرحية “أيام العز“، والتي أعاد لعبها مسرحيا كل من الفنانة “زهرة المهبول” و”عبد المالك أورايس” و”حسن عليوي” وترجمها إلى الأمازيغية وأخرجها “محمد أيت سي عدي“.
تعكس كتابات “يوسف فاضل” حمولة فكرية ورمزية ثقيلة مفعمة بكوميديا سوداء، تحمل عمقا وهمّا مجتمعيا متمردا تواقا إلى التغيير والتحرر، قلم لم يتجرأ عليه كثير من المخرجين المغاربة والتفكير في لعبها أو إعادتها إلى الركح بنفسٍ وتصور جديد -على حد علمنا- حتى أقدم المخرج “محمد أيت سي عدي” على ترجمة إحدى أنجح المسرحيات المغربية وهي مسرحية “أيام العز” التي ألفها المبدع “يوسف فاضل” وقام بتشخيصها عمالقة الفن المسرحي آنذاك، فهل حققت مسرحية “ءوسان درنين” ما كان يصبو له النص المقتبس، أم أنها عرته وأسقطت عنه تاج النخوة والرقي الذي لبسها إلى اليوم.
“ءوسان درنين” اقتباس أمازيغي صرف
كثيرا ما ترددت عبارة “الترجمة خيانة للنص الأصلي” وجعلها الباحثون والأكاديميون طقسا يصعب خرقه إلا لخريت يسبر اللغة سبرا ويفهم التأويل رمزا، لكن تجربة ترجمة نص “أيام العز” إلى نص أمازيغي تحت عنوان “ءوسان درنين” حققت نسبة جد عالية من الدقة والفهم العميق للنص الأصل، ربما يعود الأمر إلى كون المخرج “محمد أيت سي عدي” قام بإخراج ذات النص ضمن فعاليات المسرح الجامعي دورة 2004، وقد أهله كل هذا الوقت إلى فك التأويلات والصور الرمزية بين السطور، مع إضافة لمسات ذات صلة بالمترجم كإقحامه لعالمه الخاص ضمنا وصراحة من خلال استحضار مدينته بن سركاو وبعض القفشات المتداولة، لكنها لم تزغ عن الموضوع العام للمسرحية، ومنحتها مُسحة محلية أكدت على أن النصوص العالمية تصلح لكل مجتمع ولكل زمان ومكان، وبالتالي احترمت الموضوع العام للنص الأصلي مع إسقاطات هنا وهناك رغبة من المترجم في إصباغ نصه وإذكاء لمسته التعبيرية، وعلى العموم فالنص هنا ليس خيانة للنص الأصلي، إنما هي رؤية جعلته يتوسع جمهورا ولسانا.
الصراع، السلطة، التسلط
الصراع في مسرحية “ءوسان درنين”/ “أيام العز” صراع بقوة المبنى والمعنى، دائرة مفتوحة لا تنتهي، فيها الحارس رمز للسلطة والتسلط الذي يموت في الأخير رمزا لكنه حالة متأصلة اجتماعية وسياسية وطبقية وإنسانية لا تزول، ففي كل واحد فينا يقبع “الحارس” الذي يرغب في السلطة وممارستها على من هو أضعف منه، فينغمس الحارس في ممارسة أغويته حد التحريض على القتل، بمجرد أنه أحس بشيء من التمرد، البقاء دوما للأقوى (للأسف).
المسرحية صراع بين صراع، صراع الشخصيات في ما بينها، وصراع الشخصية مع ذاتها، وصراع الكل ضد الواقع. تتجسد حالة الصراع هنا شخصية رمزية ذات حضور وقوة جذب، هي المحرك الأساس لمجريات الأحداث، وما تنفك حلحلتها وتنسلخ الشخصية من بلوى حتى تنغمس في أخرى، هي دائرة الزمان المتعاقبة كما الليل والنهار، وتفاقمها في واقعنا الحالي يضفي على المسرحية طابعا آنيا كما لو كتبت لهذا العصر المُترف ظلما والمتعالي تسلطا بين حلقة الأضعف فالأضعف.
صراع بين ذاتي يجعل كل شخصية تحاول البحث عن حلولها في إطار مجتمعي، لكنها تنقاد لتناضل من أجل البقاء، لينتهي الصراع في مسرحية “ءوسان درنين” صادما للمتلقي، فرمزية فوز السلطة/ التسلط خلقت جدلا ونقاشا أزليا لا ينتهي، ليبقى الخلاص معلقا إلى حين.
الموت؛ نهاية قبل البدء
جسدت المسرحية واقعا مريرا من مجتمعنا وحاضرنا، لكنها لم تنجح في إيجاد حلول إبداعية لكل المشاكل والصراعات التي عاشتها الشخصيات ليبقى موت الحارس رمزيا علامة لانتقال السلطة من يده إلى يد “همو” الذي تسلط بدوره بعدما كان ثائرا قياديا تحركه نزعته المناضلة الصارخة بحقوق العمال، هو أيضا يموت على يد أعز أصدقائه في النضال والتشرد “بهى” رمز الصداقة والبساطة يتحول وحشا ينهش أقرب الأقربين، فوز السلطة رمزيا في نظري ضرب في موضوع المسرحية العام التي حاربت السلطة/ التسلط منذ البداية، تسلط “همو” على “بهى” من جهة وتسلط الحارس عليهما معا، بالإضافة إلى تسلط المرض على كل شخصية واعتقالهم في مستشفى المجانين ببرشيد بكل ما تحمل المدينة من رمزيتها وإسقاطاتها السياسية والنفسية والحقوقية، هي ثورة كذلك على التسلط.
موت النضال هو ضد حالة الإنسانية المناضلة بالفطرة، قد تكون إشارة من المخرج إلى اعتبارية فوز السلطة -واقع الحال- استمرار لما نعيشه اليوم، نظرا لمجريات الأحداث العالمية والعربية بما فيها المغربية. موت الكفاح فينا سجال لابد له من الاستفاقة حتى يرى عالم اليوم وما حوله. موت النضال استفزاز جريء يضمر غاية في الأفق…
لقد أعادت مسرحية “ءوسان درنين” إلى الواجهة واقعا مريرا تمخض إعصارا نائما ينتظر شرارة ملهمة، وعكست بأسلوب أنيق راقي حالة مسرحية “أيام العز” التي انتقدت واقع التسعينات والثمانينيات الذي كانت غايته التحكيم إلى قوانين قد تبدو بسيطة، لكن إسقاط المسرحية على مجتمع الألفينات وما بعدها المليء بالقوانين الموصدة حالة تطرح أكثر من سؤال، ما ذا تغير في قوانين ومجتمع الأمس وبين مجتمع اليوم؟
تطرح المسرحية أسئلة جريئة بقيت معلقة وزادتها نهايتها المأساوية ظلمة وتشنجا، ورثاء على مجتمع تقدم نصا وقوانينا لكنه احتفظ لنفسه وانزوى في ماضيه حتى بات يعيش ازدواجية الهوية والحرية والثقافة، فهو حالة نادرة من الصراع القديم الجديد، وواقع يتلألأ لكن لفئة دون أخرى. “زهرة المهبول”، “عبد المالك أو الرايس” و”حسن عليوي” ثلاث شخصيات جسدت “هام” و”هبو” و”الحارس” وأمتعتنا فنا أنيقا يبعث على التساؤل، في نص ثقيل جدا لا تستوعبه العامة، ويستحق الفرجة والتعمق في ما بعد الفرجة، لفك ألغام نثرها “يوسف فاضل” بحنكة ودهاء حتى تنغمس سما طاهرا إما يرديك أو يبعث فيك الأمل من أجل غد أفضل.
عبد الرحيم الصالحي/