عبد الرحيم الصالحي
- من كان ليعتقد أن ارتشافة كأس شاي بالزعتر، أو شرب قهوة سوداء في مقهى وسط حي شعبي تنسلخ منه البراءة ليغدو حالة تحرش علنٍ يعاقب عليه القانون، وفي باطنه تتجسد ظاهره العنف المبني على النوع الاجتماعي ضد المرأة حالة “النادلات” في فضاء عام مفتوح.
إلى عهد قريب كنت من الرواد المدمنين على المقاهي، فهي فضاء عام يرتوي من الجدور التي تغذيها، استوقفتني هنا ظاهرة توظيف “نادلات المقاهي” التي انتشرت في الآونة الأخيرة، فقادني هذا الفضول إلى دراسة هذه الظاهرة في وسط شعبي معتمدا على الملاحظة والتحليل، وقد آثرت اختيار مقاهي متباينة اجتماعيا واقتصاديا للتغلغل في علاقة “النادلات” بالزبائن مع أخذ بعين الاعتبار استحضار عينة من المقاهي التي توظف الذكور والأخرى التي وظفت الإناث، والوقوف كذلك على العنف المبني هنا على النوع الاجتماعي داخل هذه الفضاءات العامة وما تئده من ممارسات وسلوكيات مسكوت عنها.
الزبون المستذئب
- الفضاء العام فضاء مشترك بين الجميع، والحقوق فيه مشتركة بين الجنسين بحكم القانون.
في معظم المقاهي التي اعتكفت فيها على الملاحظة ودراسة الحالة، يتراء لك للوهلة الأولى أنك في فضاء عام بسيط ينخره الروتين اليومي ما بين مشاهدة مباريات كرة القدم ومشاهدة الأخبار، وأن الزبون فيه يصنف ملكا – بحسب علم المطاعم الفرنسي، يأمر بمشروب، يرتشف منه فما يلبث أن يختلس النظرة تلوى الأخرى على النادلة التي تقدم له المشروب مغلفا بابتسامة فرضتها طبيعة العمل، تتطور النظرات وتتأجج كلما زاد ارتياد الزبون للمقهى وكلما طالت مدة إقامته فيها، فتتطور الأحداث هنا تَتْرا وتتزاحم داخل الفضاء ذاته، فتجد لسانه يسابق نظراته معلنا حالة التحرش “المُقنن” البريء وسط جموع الزبائن اللذين ينتظرون الدور والفرصة، قد يكون التحرش هنا كلمة بسيطة، هي كذلك بادئ الأمر، لكن متتالياتها الكلامية تضمر أنيابا مستدمية تنتظر لحظة الافتراس وتخطط له بروية وببطء شديد. عجيب أمرهم فهم ماهرون في التماطل والتطاول وبرودة الدم التي ينشرونها في الأرجاء وكأن الأمر مجرد لهو النادلة فيه مجرد بقشيش.
استوقفني هذا المشهد كثيرا وتكرر ما مرة في عدد من المقاهي، ويتكرر كذلك مع زبائن يرتادون ذات المقهى بانتظام كل يوم وفي نفس المكان ومع نفس المشروب، وغالبا ما يكون “براد أتاي مشحر”، قد تتغير الكلمات والشخصيات والنادلات والمقاهي، لكن فعل التحرش يبقى بالطريقة عينها، ببرودة وتماطل وتطاول ثم بقشيش، أرجأت الأمر بداية إلى أنه لا ينفك يزيد عن حدود المقهى وأنه تنفيس عن النفس الذكورية المتعطشة للآخر الأنثى، ولو كان محصنا – فتلك قصة أخرى- إلا انه فعل مستذئب يتسرب رويدا رويدا ليكسب انتباه “النادلة” يشوبه الكثير من الأسئلة.
خُبثٌ في ظل زبون
التحرش هنا أسلوب وتفنن في التغزل، ومن الزبائن من ينتهز لحظة تقديم المشروب يُتبعها وابل من الكلمات، وآخر يستغل طلب الرقم السري للأنترنت ليشبع نزوته بالنظرات والهمسات، وفي حالات أخرى يتقمص فيها التحرش أسلوبا بدائيا وعلنيا ومباشرا أمام أنظار كل من في المقهى تحت ذريعة النادلة لم تشتكي ولم تتذمر (هي بغات)، هي في الأخير أساليب ملتوية وساذجة تلتحف ثوب العفوية والمكر، لكنها أفعال تنخر أنوثة النادلات / المرأة بلا رحمة.
وفي حديث جانبي مع بعض النادلات وبحسب دراسة ميدانية -اطلعت عليها- من إنجاز باحث في سلك الماستر بجامعة ابن زهر، تبين أن معظمهن مُكرهات لا راغبات في تحمل تفاهة بعض الزبائن، ذلك، وأن القصص التي تُروى لهن من طرفهم مملة و تبعث على الغثيان، لكنهن مجبرات على تحمل النظرات والنزوات وفي أحايين كثيرة اللمسات والغمزات والهمسات التي يُتًشدق بها عليهن رغبة منهن في تحسين وضعيتهن الاجتماعية والاقتصادية، ولسان الحال يقول انهن يعشن من أجل أسرهن سواء الصغيرة والكبيرة (وذلك موضوع آخر علنا نرجع له في مقالاتنا القادمة)، ومنهن من تستنكر وجود نادلات يغرين الزبائن عنوة ما يشجعهم على التطاول والتحرش بكل النادلات جهارا نهارا دونما رقيب ولا حسيب، وهو الأمر عينه الذي سجلناه بدورنا أثناء ملاحظاتنا المتبصرة لهذه الحالة، ويتعلق الأمر بوجود نادلات بملابس أكثر تحررا وبزينة فيها غلو لكنهن راضيات راغبات متمسكات بهذا المظهر قاصدات استفزاز الزبائن بغيت بقشيش أكثر – بحسب قول إحداهن- وحتى التلاعب في طريقة المشي المليئة بالإيحاءات الجنسية هي وسيلة كذلك لزيادة “البورفوار”، لكنها تضل حلالات نادرة وتعميمها على الكل قصور في الرؤى.
في مقابل ذلك، تصطف مقاهي أخرى توظف الذكور، ونسجل هنا عدم وجود فعل التحرش بالنادل الذي يقدم نفس الوظيفة المغلفة بنفس الابتسامة التي تقدمها النادلة كما النادل للزبون، كيف لا فالتحرش مقرون بالمرأة لا بالرجل، هذا التمييز ضد النوع الاجتماعي عشش في عقلية هجينة لاتزال تنظر إلى المرأة كأداة ووسيلة للجنس، بيد أن المجتمع وعاء يتساوى فيه الجميع وللكلّ حق وحرية العمل في كل المجالات وفي كل الفضاءات.
بين الغواية والمهنة
بين الغواية والمهنة، يستمر مسلسل التحرش باعتباره عنف مبني على النوع الاجتماعي، يتجسد هنا في حالة “النادلات” بشتى الأساليب وأمام أنظار العامة داخل فضاء عام يفترض فيه أن يكون حاضنا وداعما وصمام أمان لهن من أجل بلوغ حقهن في العمل إلى جانب الرجل. حالة “النادلات” هذه تتشارك فيها المرأة باعتبارها الحلقة الأضعف وتتشارك فيها مع حالات أخرى هن فيها رهائن الابتزاز والتحرش الجنسي المتوحش، ومنها حالة “العاملات في المصانع”، “العاملات في الضيعات الفلاحية”، “الموظفات” “الطالبات”… وغيرهن كثير، فمتى ستنتهي حلقات هذا المسلسل الذي يعكر صفو الفضاءات العامة، وإلى متى ستظل المرأة تحارب ليس من أجل تسوية واقعها الاجتماعي والاقتصادي وبين حقها في العمل الشريف بل ولتغيير السلوكيات الرجولية تجاهها كذلك، قد يتبادر إلى الذهن أن الأمر فيه غلو لكن العنف النفسي والجسدي والاجتماعي الذي يخلفه فعل التحرش بالمرأة في كل المجالات والقطاعات يسكن أعماقها ويضعف بنيتها السيكولوجية والسلوكية والفكرية، وإذا ما تزعزعت بنيتها فكيف سنبني أجيال الغد، وكيف سنطمح لغد أفضل، فالمرأة السوية بناء وفكرا وسولكا مشتل غني ينتج لا محال مجتمعا متماسكا متكاملا، من أجل ذلك فلنرقى بحايتنا وسولكياتنا داخل الفضاءات العامة.