الـحَسَن شجيد
باحث
اقتضى منطق التدرج الذي تحتكم إليه الطبائع والشرائع أن يتحقق التآلف والتواصل الحضاري عبر تحقق البعد الإنساني، فنظام الأمة كما يقول علماء المقاصد لا سبيل إلى استدامة صلاحه إلا بصلاح المهيمن عليه وهو الإنسان. فلذا كان من لوازم تكوين الحضارة تكوين الإنسان، والإنسان المشبع بقيم السلم والتعايش مفض بالضرورة إلى حضارة سلمية نابذة للحروب، أما المشبع بخطاب الكراهية فمفض إلى مجتمع لا يرى إلا التدمير وسيلة للتعمير، وهو ما لا يتأتى به قيام حضارة البتة.
هذا وإن أهم أسس تكوين هذين البعدين الإنساني والحضاري في عصرنا الحاضر هما رسالة الدعوة والإعلام، فأول ما يتم توظيفه لتمرير رسائل السلم أو الحرب هي هذه القنوات، وتزداد خطورتها أكثر بعد أن أسهمت وسائل الاتصال الحديثة في بلوغها أقصى الأرض وأدناه. وقد يكون لرسالة الدعوة والإعلام تأثير إيجابي في الإنسان والحضارة معا، إن استصحب القائمون عليها منطق العدالة الذي كان ضابطه مطلق الآية: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ﴾ . نعم، إنه منطق التبين والتثبت من الأخبار التي تستهدف العقول والأفكار، فتؤثر في التصرفات التي تنتج عنها بما يخدم الإنسان والحضارة سلبا أو إيجابا. فلذا كان لزاما أن يخضع الدعاة والإعلاميون لضوابط التأثير الإيجابي في نفوس المستهدفين، حتى لا ينقلب تأثيرهم ذاك إلى أزمة أخرى تنضاف إلى الأزمات المهددة لأمن واستقرار المجتمعات.
فعلم بذلك مدى ضرورة الرجوع برسالة الدعوة إلى منبتها الأصلي، ومنبعها السليم الذي تأسست على تصوراته أركانها، وتمثل النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه قيمها ومبادئها، سعيا لتصحيح المفاهيم، وتغيير التصور الزائف عن الدين، بعد أن اجتثت مفاهيمه من سياقاتها اللغوية والشرعية والتاريخية، وبتنزيلها المنحرف في الواقع، فأحدثت ضررا بالدين وأتباعه.
وبناء على منهج التدرج الذي يقدم التعريف على التكليف، والتصور على التصديق، كانت قيم الاعتراف الإنساني أساسا منه انطلقت رسالة الدعوة، فنتج عنها إنسان قابل للتفاعل مع مختلف الحضارات التي افتتحها في زمن يسير، بعد أن علم أن قصدية التعارف مقصد مطلوب شرعا وواقعا لقوله تعالى: ﴿وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ﴾ . فالتعارف أصل إنساني تتغياه الطبيعة الإنسانية قبل أن تستهدفه الشرائع الربانية، ولهذه العلة كانت الدعوة الإسلامية رسالة إلى الآدميين جميعا، وحملت بين دفتيها أطروحات التوصل إلى هذا القصد الإنساني، فكان نبي الإسلام أنموذجا يحتذي به الدعاة، ويرفض أطروحة المتذرعين باستحالة التحقق أو تعذر الإمكان.
إن الإيحاء بحتمية الصدام نتيجة تعدد الحضارات واختلاف الديانات إنما هو دليل على فشل الحضارات في إدراك أهمية الاعتراف بقيم الاعتراف الإنساني، وقدرتها على مد جسور وآليات التواصل الحضاري بين الأمم. فالرؤية الإسلامية إذن قائمة على رد الاعتبار لهذه القيم، وتنزيلها على مستوى الواقع، ليسهل بعد ذلك تفعيل التأثير الحضاري، ولعلها آيلة في مجملها إلى الحوار، والوفاء العهود والمواثيق، ورعاية الحقوق، والانفتاح اللغوي والثقافي، وكذا مبدالة أعمال البر والإحسان. فهي إذن جسور خمس امتدت عبرها قنوات الاتصال الحضاري بين الأمم في السابق، وهي الكفيلة بترميم ما انهد منها في زمننا الحاضر إن رد إليها الاعتبار وتم السعي في سبيل تنميتها وتمتينها.