الانتخابات على الابواب : كيف حال الديمقراطية والاحزاب ؟

يعرف الحقل السياسي المغربي في السنوات الاخيرة نقاشا واسعا وحادا حول الاشكالات التنظيمية والمذهبية المرتبطة بالظاهرة الحزبية المغربية، وينخرط في هذا النقاش الفاعلون السياسيون والنخب المثقفة والصحفيون وعموم المواطنين المتتبعين للشأن العام.. ولقد اديرت هذه النقاشات في الصالونات السياسية، وفي استوديوهات الاعلام، وفي مقرات الاحزاب، وفي الملتقيات العلمية والفكرية بالجامعات وبالمؤسسات الاكاديمية…بل وحتى في الحلقات الطلابية الجامعية وغير الجامعية.. مما يدل على اهمية المؤسسة الحزبية كرهان لتأهيل المؤسسات الدستورية.

واذا كان جزء من هذا النقاش الواسع اكتسى طابعا دوغمائيا او حلقيا فانه يكاد يحصل اتفاق بين الجميع على اختلاف الرؤى السياسية والمقاربات المنهجية على ان المؤسسة الحزبية(تعيش ازمة مركبة يتداخل فيها البعد التنظيمي بالبعد المذهبي، وتتجلى مظاهره في عدم احترام نظامية عقد المؤتمرات- غياب اليات تنظيمية لتدبير الاختلاف والاعتراف بالتيارات السياسية وتأثير ذلك على دوران النخب داخل المؤسسة الحزبية الناتج اساسا عن غياب قواعد التواصل بين الاجيال المؤسس على احترام الافكار والتصورات والمقاربات التنظيمية والمذهبية الجديدة على حساب استمرار ضوابط العمل السياسي والاجتماعي التقليدية وانعكاسات ذلك بالسلب على غياب الديموقراطية الداخلية داخل المؤسسة الحزبية ) محمد المسكي

هذه المستويات المتعددة والمتداخلة لمظاهر ازمة المؤسسة الحزبية انعكست على تصور وتقييم المواطن الذي لم يعد قادرا على التمييز بين الاحزاب السياسية على اسسها المذهبية وتصوراتها في مجال السياسة والاقتصاد والمجتمع خصوصا في ظل واقع يعرف غياب مشاريع مجتمعية وتمايزا في الهوية بين الاحزاب التي تكتفي بالتماهي مع التصورات والبرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تقدمها الدولة – محمد المسكي

بذلك فقدت المؤسسة الحزبية وظيفتها في تعبئة الجماهير وتحويلها الى قوة فاعلة ومؤثرة، كما فقدت قوتها الاقتراحية المنافسة لتصورات وبرامج الدولة باعتبارها تشكل قوى اجتماعية وسياسية تقوم بوظائف الوساطة والتمثيل السياسي لمختلف مكونات المجتمع وتتبنى الدفاع عن المصالح والمواقع الاجتماعية لشرائح اجتماعية محددة وتشكل بالتالي سلطة مضادة بجميع ابعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

اليوم نحن على بعد مسافة زمنية قصيرة من استحقاقات انتخابية جديدة ستدخلها هذه الاحزاب في غياب الاليات القانونية والتنظيمية لتدبير الاختلاف دخلها او تجديد هياكلها ونخبها بل وفي غياب مشاريع اصلاحية للمؤسسة الحزبية ككل: مؤتمرات وطنية واخرى جهوية ومحلية تعكس الخلل التنظيمي وتظهر عجز القيادات الحزبية التقليدية عن انجاز دورها التاريخي والسياسي  –  اختيار وتعيين (لا انتخاب) المترشحين للانتخابات خارج المساطر التنظيمية المعتمدة وانطلاقا لا من مؤهلاتهم الفكرية ورصيدهم النضالي بل اعتبارا لما يملكونه من رصيد مادي ونفوذ اجتماعي او قبلي او..-غياب الوضوح الايديولوجي ادى الى التخبط في الممارسة السياسية واللجوء الى الانتقائية والسقوط في الانتهازية السياسية – عجز القيادات الحزبية عن انجاز دورها في الظرف الراهن لأجل تحصين “المسار الديموقراطي” او” الانتقال الديموقراطي” – تغليب معيار المحسوبية والولاء للقيادات على معيار الكفاءة والاستحقاق  – فبركة اعيان حزبيين جدد داخل الاحزاب لهم رصيد او نفوذ مالي عوض المناضلين المفعمين بالنشاط النضالي مما يعرقل دوران النخب الحزبية و يساهم في تحكم اوليغارشي بالأعيان الجدد.

كل هذا النقاش الدائر حول تأهيل المؤسسة الحزبية ليس نقاشا جديدا وانما رافق الظاهرة الحزبية المغربية منذ السنوات الاولى للاستقلال واختلفت المقاربات في تفسير وتأويل الوظائف السياسية والادوار الاجتماعية التي تؤديها الاحزاب، غير ان الرجوع المكثف في الوقت الراهن لموضوع الظاهرة الحزبية المغربية ساهمت في طرحه مسطرة تشكيل الحكومات منذ اقرار الدستور الجديد، وتشكيل الحكومة على اساس السباق الانتخابي والفوز بها.

فكيف حال الديموقراطية والاحزاب وهي على بعد مرمى حجر من انتخابات 2021؟؟؟

اذا كان هناك اتفاق الان على ان الديموقراطية في بلدنا تمر بأزمة حادة تخص ضعف المشاركة السياسية، فان من مؤشراتها شيوع ظاهرة السلبية السياسية واللامبالاة بالعمل السياسي مما يكشف عن وجود ظاهرة اعمق في المجتمع المغربي وهي ظاهرة الاغتراب، من صورها ومظاهرها :

1-ازمة العزوف السياسي:

أ- الازمة التي يتخبط فيها واقعنا السياسي اليوم لا تعزى- فقط – الى ظاهرة الفساد السياسي والاقتصادي والاداري، ولا الى الفقر و الامية – وحدهما – ولا حتى الى الفراغ او الضياع الايديولوجي … بل ان كل هذه العوامل مع غيرها تترجم لنا بؤس الواقع السياسي والحزبي، وتساهم في خلق ازمة خانقة، ازمة لا تنفتح على اي تغيير ولا تندر في الوقت القريب الا بات اسوا. كما ان كل هذه العوامل مجتمعة تزيد من رفع وتيرة الخمول او العزوف السياسي وانحطاط الممارسات السياسية، وفي المقابل استمرار التدبير التحكمي للسلطة.

ب- ان ما يقوي الشعور باللامبالاة و السخرية من العمل السياسي والحزبي هو قناعة واقتناع فئات عريضة من المواطنين والمثقفين والدارسين المتخصصين في المجال الحزبي والسياسي، بأن الكل يشبه الكل، وان احزابنا رغم تعددها و ” تعارضها ” فيما بينها الا انه ليست لها من اهداف غير الدفاع عن نفسها، كما انها لم تعد تعبر عن الارادة الجماهيرية  و لا تعكس اختيارا بقدر ما تعكس عدم الاختيار، وفي هذا نفي  لدورها كمولد للديموقراطية، ويتساءل المواطن  كما تساءل من قبل المثقف الحزبي : هل يجوز لنا ان نستمر في الحديث عن الديموقراطية ونحن لا نستطيع ان نميز بين اطروحات ومواقف احزاب المعارضة مع اطروحات ومواقف احزاب الحكومة ؟؟؟ فجميعها معارضة وموالاة تدعي الرغبة في الدفاع عن الصالح العام، لكن الكل في الواقع لا يدافع الا عن مسالة توسيع مجال نفوذه، وخدمة مصالح اوليغارشيات الحزب.

ج- ان الاحزاب المشكلة للأغلبية الحكومية، التي تفوز بنسب ضئيلة وتضطر الى الائتلاف الحكومي، غالبا ما تعيش في حال من عدم الاستقرار والترحال السياسي من صف “المعارضة” الى صف الحكومة او العكس دونما التزام بالخط الايديولوجي او الوضوح السياسي او البرنامج الحزبي والانتخابي .

هذا العبث بقواعد العمل السياسي والحزبي يزيد من تراجع روح المواطنة والالتزام السياسي، فتتحول هذه الاحزاب الى ” جماعات مصالح ” او           ” ائتلافات شخصية ” تبحث عن مصالح ضيقة (زارتمان)، وهذا ما يزيد من ازمة الديموقراطية في مجتمعنا لان ( الديموقراطية في مجتمع ديموقراطي لا تكمن في البنيات بل في التفاعلات ) – سارتوري.

د- اللامبالاة بالأحزاب و بالمشاركة السياسية غالبا ما يؤدي الى تصويتات اكثر فاكثر سلبية وكانه لم يعد هناك برنامج حزبي او انتخابي  يثير الحماسة، بل وحتى اولئك الذين يصوتون انما في بعض الاحيان يكتفي الناخب بسد الطريق على فوز المرشح الذي لا يحبه ( تصويت عقابي) وان اقصى ما يسعى اليه المصوتون و بتأطير خفي هو تقليص مد تيار ما يساري كان او اسلامي او محافظ.

ان ديموقراطيتنا تمر بأزمة بسبب شيوع هذه الظاهرة السلبية المتمثلة في اللامبالاة بالعمل الحزبي والسياسي والذي يكشف عن ظاهرة اعمق في المجتمع هي ظاهرة الاغتراب.

2-ازمة المؤسسة الحزبية

احزابنا الوطنية بكل تلويناتها واطروحاتها وبرامجها وتاريخها النضالي مدا وجزرا ساهمت في بناء صرح التمثيل السياسي، لكن التمثيل السياسي الحقيقي لا يتجسد في فكرة التناوب على المناصب الحكومية، بل هو عملية التناوب على السلطة السياسية. فهل استطاعت احزابنا ان تحقق عملية التداول على السلطة السياسية؟

ان تنظيماتنا السياسية رغم تعارضاتها تتفق جميعا على الحفاظ على نظامها وتنظيماتها، وكانه ليس لها من اهداف غير نفسها حتى اصبح التنظيم عندنا علة وجود التنظيم( كلود جوليان).

ان جميع هذه الاحزاب تدعي الرغبة في الدفاع عن الصالح العام سواء في مؤتمراتها الحزبية، اوفي المرافعات البرلمانية، او في اشرافها وتدبيرها للمجالس والجماعات، لكن الكل في الواقع لا يدافع الا عن قوته الخاصة ولا يعطي الاولوية في تدبيره الا لمسالة توسيع مجال نفوذه ( النقاش الساخن الذي واكب قضية القاسم الانتخابي)

وما يلاحظ عن احزابنا انها كلما وصلت وتسلمت دواليب تسيير الشأن العام الا وتصاب بالضعف التنظيمي والجمود الحزبي، وبعضها يتحول الى احزاب موظفين واتباع.

ان الحزب الحاكم او احزاب الاغلبية الحاكمة كلما تسلقت سلم الحكم والتوزير تعطى قيادتها ” امتيازات ” السلطة وتحولهم الى ” قيادات مرفهة ” على حساب قواعدها ومناضليها، وهي تستطيع بهذه السلطة الحكومية ان تحشد حولها الالاف من المنتفعين وطالبي المصالح الشخصية، لكنها في المقابل تخسر وحدتها وتماسكها التنظيمي وقواعدها من الشباب والنساء والعمال، كما باتت علاقتها مع قواعدها علاقة الشيخ بالمريد بعد ان كانت علاقة معايشة ومعاناة.

حتى الاحزاب التي كانت تعتبر احزابا طليعية تنازلت عن دورها الطليعي نظريا وعمليا واصبحت تسلك سلوكا عمليا يدل على استعدادها للتكيف مع الاحزاب الاخرى والقوى الحاكمة والحركات والاتجاهات المسيطرة مما يطرح اكثر من سؤال عن مال احزابنا وتنظيماتنا السياسية: فهل نحن في حاجة الى الحزب لتطوير الممارسات الديموقراطية ؟ ام نحن في حاجة الى حزب من نوع جديد ..ماهي مواصفاته ؟ وكيف سيقوم ؟

بعد ان تغير دور هذه الاحزاب وعجزها عن اداء دورها بشكل ديموقراطي تام،  فهل تغيرت الديموقراطية كذلك، وبعد ان كان مفترضا اصلا في الديموقراطية ان تكون وسيلة بيد المواطن او بيد الشعب قصد المشاركة في الحياة العامة عن طريق الانتخاب، والانتخاب (ليس اداة تعبير سياسي ظرفية، بل ان رمزيتها تكمن في ان السلطة السياسية لا تقتصر على بعض الافراد او بعض الجماعات بل هي قبل كل شيء اداة توضح ان كل فرد او مواطن يمتلك نظريا جزء من هذه السلطة التي تمارس وتحكم) – بلونديل

في النظام الديموقراطي النيابي تفوض للنواب الذي ينتخبون بواسطة الانتخاب المباشر او غير المباشر سلطة التشريع ومراقبة المؤسسات بقوة الشرعية الديموقراطية، غير ان ما يحصل هوان النواب لا يشرعون وانما يفوضون حقهم وحق المواطنين الذين صوتوا عليهم لهيئات او اشخاص او “خبراء”  لا يمس الانتخاب نشاطهم ( التكنوقراط). فمن يمثل من ؟ وهل اصبح مفهوم التمثيل النيابي في ازمة ؟؟ وقد سئل بيرتران دي جوفنيل يوما هل الديموقراطية هي الانتخابات؟ فأجاب: انك عندما تسال اي مواطن عن الديموقراطية فانه سيجسدها لك في بطاقات التصويت ويوم التصويت ؟

هذا يبين ان المؤسسة الحزبية تعيش ازمة داخلية تتداخل في تفسيرها اسباب ذاتية وموضوعية تعكس في العمق ازمة الدولة والمجتمع وحالة الانحصار التي تبرر ” الانتقال الديموقراطي المعاق ”

فكيف ستدخل الاحزاب الانتخابات الجديدة في ظل حالة الاحتقان الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الناجم عن استمرار حالة الطوارئ الوبائية وما سببته من كوارث وخسائر اقتصادية واجتماعية مست كل الشرائح والفئات وكل القطاعات الاقتصادية والاجتماعية ؟

كيف ستدخل الاحزاب الانتخابات الجديدة في ظل استمرار ظاهرة العزوف السياسي وضعف المشاركة السياسية في الحياة العامة؟

كيف ستدخل الاحزاب الانتخابات الجديدة وهي تعيش ازمة داخلية، حيث فشلت في تدبير الاختلاف والاعتراف بالتيارات السياسية داخلها، وفشلت في انتاج نخب سياسية جديدة بإمكانها ان تعوض النخب التقليدية، كما فشلت في ايجاد ضوابط وقواعد للتداول على القيادة الحزبية، وفشلت قبل هذا وذاك في وضع برامج مجتمعية واجراءات تطبيقها على ارض الواقع الاقتصادي والاجتماعي   هذا الواقع الذي لم يكن لينتج الا واقع بلقنة المشهد الحزبي والانشقاقات الحزبية المزمنة ؟؟؟؟

اذا كان تأهيل المؤسسة الحزبية ضرورة موضوعية فانه لا يمكن تصوره الا متداخلا جدليا بضرورة اصلاحات دستورية للسلطة السياسية في اتجاه اعادة توزيع الادوار والوظائف السياسية للمؤسسات الدستورية تسمح بتوسيع قاعدة المشاركة والحرية السياسية في تدبير الشأن العام وسلطة اتخاد القرار بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

Exit mobile version