تناول الدكتور منير القادري رئيس مؤسسة الملتقى ومدير المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم، موضوع الرأسمال اللامادي -الأخلاقي و الروحي- وعلاقته بالتنمية المستدامة، مسلطا الضوء -علاقة بذات الموضوع -على تقرير لجنة النموذج التنموي، جاعلا إياه محلا للمساءلة والنقاش.
جاء ذلك ضمن مداخلته السبت 12 يونيو 2021، في الليلة الرقمية السابعة والخمسين، ضمن ليالي الوصال الافتراضية التي تنظمها مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى بتعاون مع مؤسسة الجمال، وبثت فعالياتها عبر الوسائط الرقمية لمؤسسة الملتقى.
أشار بداية إلى أنه بفضل الاعتماد على الاستثمار في الرأسمال البشري تقدمت دول عديدة كالصين واليابان، و أنها نجحت بفضل خططها التنموية في الرفع من معدلات النمو الاقتصادي و تحسين الدخل الفردي فيها.
وأضاف أن الاقتصادات المتقدمة تتخذ من تنمية الموارد الثقافية والاجتماعية والبشرية مصدر قوة محركة لكل أوجه التنمية المستدامة، بما فيها تعزيز النمو في اطار ما يعرف بمخططات الاستثمار في الرأسمال اللامادي.
وزاد أن هذا المفهوم الجديد يرتكز في جزء كبير منه على عناصر ترتبط بالمعرفة والخبرة والحكامة والعدالة، والرأسمال الاجتماعي و الثقافي الروحي للمجتمعات، وأن الإنسان هو الأساس الذي يقوم عليه هذا المفهوم الجديد، فمنه ينطلق وإليه ينتهي .
وفي ذات السياق ذكر بالتوجيهات السامية لجلالة الملك محمد السادس نصره الله للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في خطاب العرش بتاريخ 30 يوليوز 2014، قصد القيام بدراسة موسعة لقياس القيمة الإجمالية للمغرب من الرأسمال اللامادي من سنة 1999م إلى سنة 2013، موردا مقتطفا من خطاب جلالته “… إن الهدف من هذه الدراسة ليس فقط إبراز قيمة الرأسمال غير المادي لبلادنا، وإنما لضرورة اعتماده كمعيار أساسي خلال وضع السياسات العمومية، وذلك لتعميم استفادة جميع المغاربة من ثروات وطنهم…”.
وأوضح أن العديد من الدراسات العالمية اعتمدت كمكونات للرأسمال اللامادي كل من التراث الثقافي اللامادي والرأسمال الاجتماعي وكذا الرأسمال البشري -غير المادي- ،و أن هذه المعايير هي ذاتها التي اعتمدتها لجنة صياغة النموذج التنموي الجديد في صياغتها للتقرير النهائي لِعَمَلِها ، منبها إلى أنه تمت الإشارة في التقرير بصفة مقتضبة ومحتشمة إلى المكون الروحي والأخلاقي .
ولفت إلى أن هذا المعيار الجديد تتسابق سائر الدول إلى اعتماده في تصوراتها الجديدة لخططها التنموية، مذكرا بمقولة للأديب الفرنسي، أندري مالرو “القرن الحادي والعشرين سيكون روحيا أو لن يكون”.
وبين أن الرأسمال الروحي و الأخلاقي يعني وجود نظام قيم ورؤية أخلاقية تهتم بصلاح الفرد، ووجود دافع للوصول إلى معايير أخلاقية تعم المجتمع وجميع جوانب الحياة العامة والخاصة، وتابع أن ما یؤاخذ على التنمية المعاصرة، تهمیشها للجوانب الروحیة والقیمیة للإنسان، واستطرد مبينا الآثار السلبية المترتبة عن ذلك والمتمثلة في دخول مجتمعاتنا في أنفاق مظلمة، رغم التقدّم الحاصل ماديا وتقنيا، والمتجلية في الأزمات النفسیة الخانقة التي یتخبط فیها إنسان اليوم، والفراغ الروحي المهول الذي یعانیه، ومظاهر الانحراف السلوكي، بالإضافة إلى الاستنزاف المتزاید للثروات، وما رافقه من اختلال خطیر في النظام البیئي، وغیر ذلك من الجوانب المظلمة لهذه التنمیة .
وأشار إلى أن المغرب قد انتبه منذ البداية من خلال التوجيهات السامية لجلالة الملك محمد السادس نصره الله ، إلى ضرورة الاهتمام بالرأسمال اللامادي بمفهومه الشامل للجانب الروحي لدعم التنمية ، من خلال مجموعة من الخطابات الملكية التي تناولت أهمية الرأسمال اللامادي في تحقيق التنمية، وضرورة بلورة نموذج تنموي جديد مغربي-مغربي ينطلق من خصوصياتنا المغربية، ويستلهم من التجارب الدولية في نقاطها الإيجابية، وكذا الارتقاء بالموروث الثقافي و الروحي، وإطلاق تنمية جهوية تعتمد على تأهيل الموارد الجهوية وتطويرها.
وأكد رئيس مؤسسة الملتقى أن الدين والأخلاق والقيم لا تعيق التنمية، وأن الرأسمال الروحيو الأخلاقي كشكل من أشكال التراث اللامادي، أضحى في ظل التحديات المعاصرة التي يواجهها العالم، مفتاحا رئيسيا لترسيخ ونشر القيم الأخلاقية الفاضلة في النفوس والمجتمعات، بما يعود على الإنسانية جمعاء بانتشار الخير والفضيلة والسلم.
واسترسل أن الإنسانية بحاجة اليوم إلى هذا المكون الروحي والأخلاقي – التصوف – وما يمكن أن يقدمه من ضمانات عملية لإنجاح المشاريع التنموية، وفي طليعتها الصدق والإخلاص في المعاملة، بالإضافة إلى ترسيخه لقيم المواطنة الصادقة في النفوس وما لها من أثر مباشر على النهضة التنموية، إلى جانب ما يدعو اليه من مكارم الأخلاق و القيم الإحسانية، وتابع أن كل هذا من أجل بناء حضارة إنسانية راقية قائمة على التعايش والتعاون والسلم والأمن والأمان، ونبذ كل أشكال التطرف والعنف والإنحلال، وأن التصوف يعتبر مصدراً للخير والقيم والفضائل الإسلامية السامية، التي هي قيم إنسانية كونية تنشد الرحمة والمحبة والسلام للعالمين، موردا في نفس السياق مقولة الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون “ما أحوج العالم لوثبة روحية لتحقيق توازنه”.
كل هذه العناصر يقول القادري تدفعنا إلى تسليط الضوء على تقرير لجنة النموذج التنموي ووضعه محل المساءلة و النقاش، مؤكدا ان الاهتمام بهاته العناصر في المشروع التنموي الجديد و ملامسة هذا الاخير اياها يجعل منه مشروعا أكثر نضجا وفعالية ويحقق له سبل النجاح، معتبرا أن البعد الأخلاقي للإنسان هو الضامن لنجاح كل مشروع تنموي، وأنه لا تنمية بدون أخلاق ولا أخلاق بدون اهتمام بإصلاح الفرد والمجتمع، ونبه إلى أن أي تقرير أو نموذج تنموي سيظل حبرا على ورق إذا لم يكن وراءه الإنسان هو الفاعل ببعده الروحي والأخلاقي، وأضاف أن القصد من كل خطة تنموية أن تنتج الأخلاق الوطنية الصادقة التي تقدم المصلحة العامة على المصلحة الشخصية.
وانطلاقا من الأهمية البالغة لمفهوم رأس المال اللامادي الروحي والأخلاقي ومدى مساهمته في نهضة المجتمع، أكد القادري أنه يجب أن يكون الشغل الشاغل للأفراد والمنظمات والحكومات والمجتمع المدني والأحزاب السياسية والزوايا الصوفية وعلماء الأمة، وكل الفاعلين، وأنه يتعين عليهم أن يدركوا أن العامل الأساسي ضمن أولويات أية استراتيجية اقتصادية وانمائية مبرمجة هو الاستثمار في تخليق العنصر البشري و من خلاله الحياة العامة و العمل السياسي .
ليخلص إلى أنه لإنجاح النموذج التنموي الجديد الذي يسعى إلى تشييد سبل الرخاء الاقتصادي بخلق الثروة وفرص الشغل، وتنمية الفرد وتطوير قدراته، وتحقيق الإدماج وتكافؤ الفرص والاستدامة… ، لابد من الاهتمام بتنمية الجانب الروحي للإنسان، معتبرا أن الأمن والاستقرار هما أساس خلق الثروة، وأن الثقة والمصداقية هما عماد تحفيز الاستثمار.