مهرجان إسني ن ورغ.. نهاية البدايات نحو سينما أمازيغية منافسة

بقلم/ عبد الرحيم الصالحي

الدورة 14 لمهرجان إسني ن ورغ الدولي للفيلم الأمازيغي؛ ما ذا بعد.

منذ الدورات الأولى لمهرجان إسني ن ورغ الدولي للفيلم الأمازيغي، خطت الجمعية المنظمة أهدافا عمودية تتسلقها رويدا رويدا، فكان من بينها التأسيس لمهرجان خاص  بالفيلم الأمازيغي، يعكس شغف وحب وطموح العاملين في هذا الحقل بوجه عام، وبكل تخبطاته التقنية والفنية والجمالية التي عكست تجربة جد متواضعة كانت لبنة أساس ما بات يصطلح عليه اليوم ب “سينما أمازيغية”، وكثيرا ما كان النقاش حول ماهيتها وخصائصها التي أهلتها لتستحق هذا الاسم، فكان الجدل حول توصيفها بسينما ناطقة باللسان الأمازيغي محاباة ونضالا للقضية من باب التشجيع والتعريف والتأسيس لها، ومنهم من اعترض طبعا -على التسمية- لأن السينما لغة عالمية، لها أسس ومقومات ونظريات ومدارس، ومن أجل تخصيصها عن غيرها؛ من هذا المنطلق؛ كان لزاما كتحصيل حاصل أن يكون لها طابع خاص بها يميزها فنيا أو تقنيا عن غيرها لتستحق هذا اللقب، لكن واقع الحال فرضها رغم كل الجدل الحاصل حولها إلى اليوم.

شخصيا، أعتبر الدورات العشر الأولى من عمر المهرجان لبنة أساس قوية أرستها إدارة المهرجان بطعم نضالي محض، فكان الهدف العام خلال هذه المرحلة الرقي والارتقاء ب “السينما الأمازيغية” والعمل على إشراكها في قلب الحداثة السينمائية المعاصرة، حيث تبنى المهرجان سياسة تشاركية من خلال وضع برنامج لتكوينات في مهن السينما، توافق ما استجد في صناعتها، بغيت تكوين خلف بعيد عن النمطية والرؤية الكلاسيكية التي خلقتها أفلام “الفيديو_VCD” والتي أنشأت جيل من التقنيين والمخرجين والممثلين ذي لمسة أحادية تفتقر إلى الكثير من الإبداع والحداثة البصرية.

الدورة 14 نقطة اللاعودة وتحقيق الذات

14 سنة من عمر المهرجان كانت؛ في نظري؛ كفيلة لتحقيق الأهداف العامة للمهرجان، وتحقيق طفرة نوعية في عالم السينما الأمازيغية، اليوم بات بالإمكان الحديث عن سينما أمازيغية بمقومات ومواصفات وسمات دالة على الهوية الأمازيغية ليس لغويا فقط، بل من منظور شمولي فني، تقني، لغوي وبتصور إخراجي يستجيب لها.

دورة 2023 من مهرجان إسني  ن ورغ الدولي للفيلم الأمازيغي أضحت نقطة اللاعودة سينمائيا، حيث تميزت هذه الدورة بمسار تصاعدي جميل، عكسته برمجة الأفلام المعروضة للمنافسة، والتي تميزت بكثير من الإبداعية والجمالية وبكثير من العمق والتمظهرات الفنية التي تستجيب لكل المقومات السينمائية، فقد عبرت لجان تحكيم المهرجان عن التباين الخفي بين كل الأفلام المتنافسة، تقنيا، فنيا، أداء ونصا، واستحسنوا المستوى التقني والإبداعي لكل الأفلام، ومن ذلك إقدام لجان التحكيم على إضافة جوائز أخرى جديدة عن الجوائز التي أقرتها إدارة المهرجان، ومنها جائزة أحسن عمل أول عن الأفلام المشاركة في صنف مسابقة الأفلام الأمازيغية، والتي حصل عليها الفيلم الهولندي “أيت إسحاق” للمخرج سليم هاسي، بالإضافة إلى تنويه فيلم “اهتزاز” للمخرج الفرنسي نيكولا جاكيت، وفيلم “أسيف” للمخرج المغربي ياسين أيت فقير. هذه المساحة الحرة للجان التحكيم تدل على أن مستوى الأفلام الأمازيغية في تصاعد جدي يعكس رغبة جامحة نحو سينما أمازيغية مواكبة ومتطورة مستجيبة للتطورات الفنية والرقمية والجمالية؛ بكل بساطة؛ تعايش عالم اليوم.

نحو مقاربة إبداعية عصرية مستدامة

إن الواقع الفني الجمالي الذي عاشته الدورة 14 لمهرجان إسني  ن ورغ الدولي للفيلم الأمازيغي، تدعو إلى العودة للذات الفنية والغوص فيها، في سبل استثمار الهوية والثقافة الأمازيغيتين أحسن استثمار، في التجديد والعصرنة التي لا تفسد الخصوصية المحلية بنظرة أنيقة عصرية، تحمل هم السينما للجميع، بزاوية معالجة حديثة لا تستصغر تراث الأجداد ولو كانت القصة بدوية، وهو ما لمسناه في فيلم “قصر نظر Myopia” للمخرجة سناء عكرود، الذي توج بجائزة أحسن ممثلة وجائزة أحسن فيلم طويل، هو فيلم ذو طابع بدوي اعتمد كما الأفلام الكلاسيكية الأمازيغية على شخصية الحمار باعتباره شخصية معنوية حاضرة مجاليا، كما وظف كل الملامح البصرية للبادية الأمازيغية الفقيرة من حيوانات وجغرافيا وتضاريس وملابس وإكسيسوارات، ووظفت إلى جانب ذلك الفقيه الذي لا يخلو منه أي دوار، مع فارق كبير في الرؤية الإبداعية والجمالية و التصور الإخراجي؛ بقوة الطبيعة والمجال؛ فرسمت المخرجة متتالية بصرية أفرغت ذهنية المتفرج من التصور النمطي للبادية الأمازيغية، وألبسته حمولة فنية تجعلك كمتفرج لا تكترث للصورة النمطية الثلاثية “الحمار، الفقيه والمرأة” التي عششت في الأفلام الكلاسيكية، بالإضافة إلى انسيابية السرد والحكي والتشخيص المنضبط للقصة، زد على ذلك اعتماد موسيقى تصويرية واقعية تعكس عمق وبعد نظر المخرجة التي استلهمت تجربتها من السينما التجريبية والواقعية.

في ذات السياق عبر المخرج المغربي طارق الإدريسي، الذي حاز بدوره على الجائزة الكبرى لفئة المسابقة الأمازيغية عن فيلمه “إيقاعات تامزغا Sound of Berberia”، عن حس درامي رهيف يسرد قصة سفر موسيقي لشخصيتين تبحثان عن الذات التي تاهت في الصحراء الكبرى، سفر مشحون بكثير من العواطف والأحاسيس الجياشة التي تتمايل حبا، غضبا، شغفا، ألفة، سمرا، اشتياقا، حزنا، مرحا وعشقا للحياة، سفر روحي لامتناهي يعكس صيروة الحياة التي لا تتوقف. عمد طارق الإدريسي على المزاوجة بين تقنية التوثيق التي تتسم بها الأفلام الوثائقية وأسكنها طابع أفلام الإثارة والأكشن، فكانت النتيجة عمل درامي فني ذو لمسة وثائقية وبنفحة تخيلية، بين البينين، هي تجربة جديدة له تضاف إلى خزانة الأفلام الأمازيغية التي اعتمدت الأسلوب الحديث في التصوير للتعبير عن قصة، خرجت بدورها ؛ كما الأفلام الأخرى؛ عن إطار الصورة (Cadre) الكلاسيكي وأبدعت إطارات جديدة ساهمت في إيصال إحساس عميق ساعد على التقرب والتعاطف مع الشخصيات بشكل كبير.

برمجة فنية أنيقة تعكس واقع السينما الأمازيغية

إن الحديث عن الأسلوب الفني والإخراجي والجمالي الذي شهدناه خلال هذه الدورة، والذي أجمعت على تقديمه كل الأفلام المشاركة، حديث لا متناه ذو شجون، يؤكد على أن القيمين على برمجة هذه الدورة نجحوا في وضع برمجة فنية غنية دسمة، أثبتت أن واقع السينما الأمازيغية بات منافسا بكل استحقاق في كل المحافل السينمائية العالمية، هو عمل في الظل مظنٍ جاد مثابر ملتحف بكثير من النضال ونكران للذات، غايته أولا و أخيرا الارتقاء والرقي بالفيلم والسينما الأمازيغية الحديثة، فهل ستتمكن الدورات القادمة للمهرجان من الحفاظ على هذا الخط الدرامي التصاعدي، وهل ستكون هذه الدورة حقا نهاية التأسيس ل “سينما أمازيغية” لينتقل الحديث بعدها عن إرساء نقد بناء وجاد يسبر الأفلام الأمازيغية سبرا دقيقا، وهل سنتمكن من نقد الأفلام دون سخط أصحابها على النقاد على قلتهم، وهل سيعكس مهرجان إسني ن ورغ طموح فئة عاشت وتكسبت من الأسلوب الكلاسيكي والذهاب بعيدا في إحداث قطيعة فنية مع الأفلام التي لا تستجيب إلى المستوى الذوقي الفني الذي وصلت إليه الدورة14، وهل سيتمكن المهرجان من بسط شروط أكثر عمقا ودقة، أم هل سترضخ إدارة المهرجان إلى واقع الحال والرضى بما أنتج كيف ما كان وعلى عواهنه. 

Exit mobile version