“إن فن السياسة، وهو يحقق أروع وأجود ما في الأنسجة، يضم الشعب بكامله… ليضمن للدولة السعادة التي يمكن أن تنعم بها، دون نقص أو خلل” – أفلاطون-
أمام السؤال الفلسفي والحقوقي والإنسانوي”هل السياسة من حق الجميع؟”، فإن الجواب الأول الذي قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة هو: نعم، ولو من باب كون الإنسان كائنا اجتماعيا أو “حيوانا سياسيا” كما يقول أرسطو. فإذا كانت السياسة وكل ما جاء من فعل ساس حكرا على طبقة السياسيين ومختلف الأعيان دون غيرهم، ما المانع أن تكون السياسة قضية الجميع؟ بل وحق إنساني لصالح جميع الفئات بغض النظر عن سماتها الاجتماعية والمعرفية وغيرها؟ أي ما الذي يعرقل دمقرطة السياسة وتعميم ممارستها على مختلف الأفراد والشرائح الاجتماعية؟ وما معنى كلمة “الجميع”؟
في الحقيقة تبدو كلمة “الجميع” وكأنها تشمل جميع الإنسانية المعنية بالشأن السياسي، أي هم العيش المشترك المنسجم داخل فضاء المواطنة.
لكن قبل مسائلة الجواب بعمق، نطرح سؤالا آخر يفرض نفسه بنوع من الإلحاح: ما معنى السياسة؟ لماذا علينا الانشغال بها؟
إذا كان من العبث بمكان محاولة تفسير السياسة في بعض الكلمات أو السطور، نلاحظ رغم هذا إمكانية اختزال النشاط السياسي في التورط في قضايا العيش المشترك والتعايش السلمي في جميع ميادين الحياة. بهذا المعنى، فإن السياسة ميدان يستهدف تحديد وتطبيق قوانين وأعراف التعايش الاجتماعي على أرض معينة أو داخل مجموعة اجتماعية. وهذه القوانين الجاري بها العمل في كل بلدان العالم هي التي تحدد في حد ذاتها مفهوم السياسة. يقال: “إما أن تمارس السياسة أو تمارس عليك”، كما يقال كذلك: “لا يعذر أحد بجهله للقانون”. هذه المقولة الأخيرة يمكن أن نتصورها نابعة من فم قاض يُحملنا مسؤولية جهلنا بنظرات مرعبة وشارب أكثر رعبا، مقولة يمكن أن تنطبق إلى حد بعيد على السياسة وشؤونها: لذلك فمن اللازم علينا ممارستها ولو من باب الفكرة البسيطة والمبدئية التي مفادها أننا في المغرب، كما في جل دول ما يسمى بالعالم النامي، نعيش في شبه ديمقراطية أو في مرحلة الانتقال اليافع نحو الديمقراطية التي يقول عنها السياسيون الكسالى إنها مسلسل لا ينتهي مثل المسلسلات التركية والمكسيكية والبرازيلية… هذا بغض النظر عن التعريف المدرسي الأولي للسياسة الذي يسلم بأن الديمقراطية تقتضي أن يكون الشعب هو الذي يحكم نفسه بنفسه. لكن هناك بونا شاسعا بين طموح التعريف النظري من جهة وبين الواقع الفعلي المعاش من جهة أخرى. لذلك يبدو لنا، من باب الإيديولوجية والسياسة، أننا ما نزال دون المستوى المطلوب…
إن التأثير الوحيد الذي نمارسه ـ ولو من باب الفضول وحب الاستطلاع ـ يبدو إقصائيا وباعثا لليأس ولخيبة الأمل. بالإضافة إلى هذا نعرف جميعا أن السياسيين مراوغون ومنافقون ومتلاعبون وديماغوجيون. فوعودهم الانتخابية شبيهة بالقرارات التي نتخذها في اليوم الأول من السنة الجديدة، والتي سرعان ما نتغاضى عنها خلال الأربع مائة وأربعة وستين يوما المتبقية من السنة. هذا الشعور بالارتياب وعدم الثقة والحذر من خطابات السياسيين هو الذي يجعلنا لا نرتاح للسياسة، بل نصاب بمرض اللامبالاة الذي قد يستفحل ليتحول إلى العزوف عن أية مشاركة. إنها حقيقة محيرة ومؤلمة ومضرة بالتعايش السالف الذكر. ولعل هذا الإحساس هو الذي يجعل البعض يصوم مثلا عن التصويت في الانتخابات. وهذا الامتناع يدل على شكل من أشكال خيبة الأمل ومظهر من مظاهر المعارضة الراديكالية للنظام السياسي القائم.
ها نحن نتحدث عن الطبقة السياسية، ومن يقول الطبقة السياسية يقول: داخل وخارج السياسة، أي إما في دائرة الانتماء أوفي خانة الإقصاء. بهذا المفهوم، يبدو لنا ما يلي: إذا كانت السياسة نظريا شغل الجميع، فليس لدينا الحق كلنا في الوصول إليها بالطريقة نفسها، وهذا يرجع إلى كوننا لسنا كلنا مسلحين للخوض في العمل السياسي والتباري على أرضية معتركه الشائك. لسنا مسلحين بما فيه الكفاية لا على المستوى المادي ولا على مستوى التكوين ولا على المستوى الاجتماعي ولا المهني، خاصة وأن التخصص الذي أصبح يتقوى داخل المجموعات المهنية يبعدنا عن نظرة شاملة للمجتمع. زد على ذلك أن العمل السياسي الذي يتطلب مفاتيح معرفية خاصة، عادة ما يُقدم لنا كشيء عسير ومبهم ومعقد كما هو الشأن مثلا لنظام الاقتراع المغربي (اللائحة الوطنية، اللائحة المحلية، لائحة المرأة، لائحة الشباب، النسب العددية…)، مما يجعلنا ننفر منه ونجعله يفر منا. هكذا فإذا كانت السياسة من حيث المبدأ أو في الخطاب الرائج من حق الجميع، يبدو أن الأفراد لا يلعبون فيها الدور نفسه ولا يحق لهم الولوج إليها بالحظوظ نفسها. والنتيجة معروفة: تبدو السياسة وكأنها خدعة تبعث على الحيطة والحذر والاشمئزاز. إلى أي حد هي إذن شغل الجميع طبقا للخطاب الذي يدعي أننا نعيش في ديمقراطية تمثيلية؟ هذا يعني أن الشعب ينتخب ممثلين له ويتنازل لهم على جزء من سيادته لصالحهم. بتعبير آخر نجد أن أغلبية القرارات السياسية تفلت منه وليست من شأنه رغم حقه في ممارسة المراقبة وفي تتبع ما يجري على الساحة السياسية. والحال أن العديد من القرارات تُتخذ في صمت وبعض القوانين تمر في لامبالاة تكاد تكون عامة.
لقد كان أفلاطون يعرف السياسة على أنها “علم القيادة” أي الحكامة أو الزعامة. في هذا التعريف نجد أن لفظ “علم” يستلزم منهجية وتكوين يصبحان شرطين لممارسة النشاط السياسي. هنا يفرض السؤال نفسه: هل يمكن للفرد أن يدعي أنه عالم رياضيات وهو لا يتوفر على شهادة الباكالوريا؟ هل بعض الدروس في مادة التربية الوطنية أو التربية على المواطنة كفيلة بأن تجعلنا نملك تصورا سياسيا يعطينا حق المطالبة بنصيبنا في الحكم والتسيير؟ هل المكوث في سجن من سجون سنوات الرصاص لمدة أربع وعشرين ساعة يمكننا بالضرورة من وضعية المناضل السياسي البارز الذي يصبح من حقه قيادة مجموعة بشرية؟
من جهة أخرى هل اهتمامنا بالسياسة من خلال البرامج الحوارية في وسائل الإعلام والإسهالات التي نلقيها في المقاهي كفيل بجعلنا فقهاء في السياسة؟ إن هذا التساؤل في حد ذاته حول أهلية المواطن العادي أمام الشأن السياسي هو تساؤل خطير للغاية، لأنه يُحدث نوعا من التهميش والإقصاء. هذا الأخير يمكن أن يتحول إلى وسيلة في يد السلطة القائمة للبقاء أو الحفاظ على نفسها وخلق سيادة الظلم والطغيان، وذلك بإعطاء امتيازات لفئة معينة على حساب الفئات الأخرى (ثقافة الريع على سبيل المثال). في هذه الحالة، لم يعد من الممكن الحديث عن المصلحة المشتركة التي يتغنى بها السياسيون. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى اختلالات وانحرافات وتجاوزات اجتماعية خطيرة.
إن المصالح المعلنة والمقدمة على أساس أنها ذات منفعة عامة عادة ما تخفي مصالح فردية وأنانية عادة ما يتسلح بها النظام القائم في بحثه عن الاستمرارية والتوسع… لهذا يجب على السياسة، رغم صعوبتها الظاهرية، أن تكون شغل الجميع لأنها رهان كل ممارسة للسلطة.
إذا كان الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان كما يقال، فمن اللازم أن توجد دائما سلطة مضادة قادرة على الحد من نفوذ النظام القائم. وذلك لسبب منطقي يمكن في أن السياسيين أناس كغيرهم من عامة الناس، والناس كلهم خطاؤون ولكنهم يثوبون من أخطائهم، وعلى الشعب أن يدل بدلوه في الشأن السياسي ليكون سدا منيعا ضد المتسلطين والطغاة. هذا هو الحل الوحيد الذي يمكن أن يُؤسس ثقافة المساواة والعدالة الاجتماعية بصفتهما ركنين أساسين لكل ديمقراطية حقيقية.
من حق الشعب أن يعبر عن ردود أفعاله تجاه القرارات والسياسات التي يتبناها قادته الذين فوض لهم مصيره.
وإذا كان من الصعوبة بمكان جعل السياسة شأنا يهم الجميع على أرضية الواقع (نظرا للإقبال المحتشم الذي يثيره العمل السياسي في نفوس المواطنين) فمن الضروري أن تصبح السياسة شغل عامة الناس بدون أي استثناء أو إقصاء، فما بالك بالاستئصال؟ هكذا يمكن زرع ثقافة احترام قيم وكرامة كل فرد من أفراد المجتمع.
وبما أننا نتعايش في هذا البلد، فمن الحكمة أن لا نقتصد في تعاطينا للقضايا السياسية التي، قبل أن تكون مسألة حكامة وتدبير، يجب أن تكون مسألة: عـــــيــــش مـــــشـــترك.
ابراهيم أبوري
كاتب مغربي